شكرا جاري الفرّان

ذكّرني صديقي حسين بطرفة مفادها أن أبا من الوسط الشعبي كان يبدي النصيحة لابنه بثنيه عن الدراسة وتذكيره بعدم جدواها.

يقول الوالد لفلذة كبده: ما شأننا بالدراسة، وماذا سنستفيد منها يا ولدي؟ إن كان عن الرياضيات فلدينا آلة حاسبة في البيت، إن كان عن التاريخ فكلهم ماتوا وشبعوا موتا، إن كان عن العربية فها نحن نتحدثها بطلاقة كالبلابل والحمد لله، أما إن كان عن الإنجليزية فيبدو أننا لن نغادر هذا البلد أبدا.

 هو ـ بلا شك ـ أمر نادر الوقوع، نستغربه بل ونستنكره نحن الذين نشأنا في محيط يحث على الدراسة إلى حدّ الهوس والتقديس، لكن نصيحة هذا الرجل لابنه ينبغي التوقّف عندها.

مهلا، لا يظننّ أحدكم أني أروّج للتسرّب التعليمي، وأشجع على ظاهرة مغادرة مقاعد الدراسة في سن مبكرة كما يحدث اليوم في أكثر من بلد عربي، مما ينذر بازدياد نسب الأمية، لكن لهذا الأب الذي قد يبدو مستهترا، وجهة نظر جديرة بأخذها على محمل الجد وبأي شكل من الأشكال.

ماذا يعني أن نسفح الوقت ونقضي سنوات من العمر في حفظ ألفية بن مالك، ومعرفة الفرق بين “لا” النافية للجنس و”لا” التي تعمل عمل “ليس”؟

ماذا يعني أن نملأ رؤوسنا الصغيرة بتاريخ حكم سلاطين المماليك والأيوبيين والعثمانيين ومؤامراتهم داخل القصور؟

ماذا يعني أن نشوّش الأذهان بطلاسم الخوارزميات وألغاز معادلات الدرجات الثالثة والرابعة وكل ما سوف نحتاجه هو معرفة الأسعار والأرباح والخسائر والنفقات، أما عن تعلم الإنجليزية فلسنا في حاجة إلى حفظ أشعار شكسبير، إذ يكفي التسكع في شوارع لندن أو واشنطن أو سيدني إن تمكنت من العيش فيها، وإن لم يتسنّ لك ذلك فالزم بيتك وتفرج على الأفلام المترجمة.

أهملنا في البلاد العربية تعلم الحرف والصنائع وأقبلنا على الموائد النظرية بنهم قل نظيره، وذلك كي يُنعت الواحد منا بـ”الأستاذ” أو “المفكر”، أما الأغرب من ذلك هو إطلاق تسمية “العالم” عمن يشتغل بالدين ويسترزق منه لا بل منهم من يركب موجة الإسلام السياسي، ويثير الفرقة والفتن الراقدة تحت عمامته.

متى نعلم أن الحياة توجد خارج الكتب النظرية وقواعد الإعراب.. هل إذا تعطلت سيارتك ستضطر إلى استبدال الفاعل بالمضاف إليه، وفكّ حروف الجر لتعويضها بحروف النصب؟ وإذا حصل في بيتك تسرّب في الصرف الصحي أو انقطاع في التيار الكهربائي أو أصاب جهازك الرقمي فايروس إلكتروني، هل ستستنجد بكتاب ابن الجوزي أو بفتوى من فتاوى ابن تيميّة؟

الوالد الذي أراد نصيحة ابنه ربما بالغ في تفضيل العملي على النظري، لكنه لم يجانب الحقيقة التي قالها بشكل كاريكاتيري.. وها أنا أستكمل كتابة هذه السطور بفضل مساعدة جاري الفرّان في تصليح الكمبيوتر.