شظف العيش يدفع الأطباء الشبان التونسيين نحو الهجرة

كوادر علمية تغادر البلاد بحثا عن حياة أفضل.
الجمعة 2021/04/02
مكرهون على مغادرة بلاد يحبونها

يكافح الأطباء الشبان التونسيون في دراستهم طيلة سنوات عديدة لينعموا بالعمل والحياة الأفضل. لكنّ الواقع الذي فرضته عليهم الحكومات المتعاقبة على البلاد أجبرهم على المغادرة والبحث عن سبل العيش الكريم لتعجز الدولة لاحقا عن تعويضهم لتزداد حالة القطاع الصحي سوءا وظهرت جلية مع تفشي وباء كورونا.

تونس - يعمل طبيب الطوارئ عبدالوهاب في الصفوف الأولى لمكافحة وباء كورونا. لكنه لم يتاقض راتبه منذ أشهر ويستعد، شأنه في ذلك شأن غالبية الكوادر الصحية، لمغادرة تونس بحثا عن ظروف عمل أفضل.

وبفعل نقص الاعتمادات المخصصة لقطاع الصحة العمومية تدهورت الأوضاع في المستشفيات الحكومية بشكل جعلها منفّرة تدريجيّا للإطار الطبي.

وتقول الإحصائيات إن المئات من الأطباء يهاجرون كل عام بنسق تصاعدي منذ بداية العقد الماضي.

ولم تتوقف ظاهرة هجرة الأطباء الشباب إلى فرنسا وألمانيا أساسا وكذلك إلى دول الخليج.

ويُتوقع أن يبلغ عدد الأطباء المغادرين 2700 طبيب سنة 2022، وهو عدد أكبر من قدرة الدولة على تعويض هذه الكوادر في أي سنة.

ويؤكد الطبيب الجرّاح سليم بن صالح الذي كان رئيسا لعمادة الأطباء أن “قرابة ثمانين في المئة من الأطباء الشباب هاجروا إلى الخارج في 2019″، محذرا من كبر سن الأطباء في القطاع الحكومي.

القيام بالواجب دون حماية
القيام بالواجب دون حماية 

ويتابع الجرّاح قائلا إن “هذه النخبة أحست دائما بالاشمئزاز”، موضحا أن هؤلاء الشباب نجحوا في امتحانات الشهادة الثانوية بمعدلات عالية “ويجدون أنفسهم مهمشين من قبل السلطات بعد عشر سنوات من الدراسة”.

وتساءل “لكن ماذا فعلت الدولة ليبقوا؟”، مضيفا “أنا أيضا لم أعد أتحمّل وسأغادر”.

وتؤهل تونس سنويا 800 طبيب بكفاءات عالية معترف بها دوليا، لكن مقابل ذلك يشهد وضع المنشآت الصحية في البلاد تدهورا بسبب نقص المعدات والدواء وقلة الطواقم نتيجة سوء التصرف واستشراء الفساد.

ويقرّ الطبيب في قسم الطوارئ بمستشفى حكومي في العاصمة تونس عبدالوهاب المغيربي “أشعر وكأنني دفنت حيّا في تونس”.

وقد تزوج هذا الطبيب منذ خمس سنوات، ويحرم نفسه من إنجاب أطفال خشية ألا يستطيع توفير الإمكانيات اللازمة لتحمّل مسؤوليتهم. ويقول إن “المشكلة الكبيرة هنا هي الجانب المادي، رواتبنا مهينة”.

وكشفت دراسة حديثة أعدتها منظمة ومعهد دراسات أن الطبيب الداخلي في تونس يتقاضى حوالي 365 يورو شهريا، وهذا أقل من معدل الرواتب وبالكاد يكفي لموازنة عائلة تتكون من أب وأم وطفلين للعيش “بكرامة”.

ويهاجر الأطباء لأسباب عديدة أبرزها إغراءات رواتب الأطباء في الخارج مقارنة بتونس والتي تساوي ستة أضعاف الرواتب التي يتقاضاها الأطباء في تونس.

وتُعد تونس البلد الثاني عربيا من ناحية هجرة الكفاءات العلمية والأكاديمية بعد سوريا التي تعيش حالة حرب ومن الطبيعي تفاقم نسب هجرة الكفاءات فيها.

يقول عبدالوهاب عن ظروف العمل السيئة والراتب الضعيف “هذا غير مقبول ومقرف”، مشيرا أيضا إلى الساعات الإضافية الإجبارية  بسبب اكتظاظ بعض المستشفيات ونقص الطواقم الطبية.

صيحة خطر
صيحة ألم من ضيق المعيشة

مقابل ذلك “صفر حقوق” حسب المغيربي الذي لم يتسلم راتبه منذ أن تم انتدابه بعقد محدود المدة في ديسمبر الماضي. وهو لا يتمتع بضمان صحيّ، ويعمل بالرغم من غياب المعدات والتجهيزات الضرورية لعلاج المرضى.

ويقول “لا أستطيع التمتع بالحياة لقلة الموارد ولا العمل في ظروف جيدة، ولا شيء آخر”. ويخشى الطبيب “ألا تتمكن الدولة من سداد رواتبنا” هذا العام.

ويمثل قطاع الصحة نسبة ستة في المئة من موازنة الدولة التي تبحث عن موارد تكميلية لعام 2021، بينما تصعب أمام المسؤولين مهمة الانطلاق في إنجاز مشاريع إصلاحات كبرى للقطاع مطلوبة من المانحين الدوليين.

ويعاني قطاع الصحة في تونس من نقائص عديدة من بينها نقص الأجهزة والمعدات الطبية اللازمة، كأجهزة الماسح الضوئي (السكانر)، التي يحتاجها المريض بشكل يومي أثناء قدومه للعلاج.

ويعاني المرضى داخل أروقة المستشفيات العمومية من طول الانتظار وبطء العلاج وتباعد المواعيد وسوء التنظيم وتخلف الإدارة التي لم تتوصل بعد إلى تطبيق تقنيات التحول الرقمي (الرقمنة) بما يسهّل الخدمات.

يقول عبدالوهاب “في لحظة ما أقول لنفسي: ماذا أفعل هنا؟” لأن “الوضع في تونس أصبح مصدرا للقلق والحيرة”.

ويتابع الطبيب الذي تلقى عروض عمل ويُعد ملفه لمغادرة البلاد “لا أرى أملا هنا، أريد أن أهاجر من أجل روح معنوية أفضل”.

وفي مؤشر على تأزم وضع قطاع الصحة في تونس قام الأطباء الشبان خلال ديسمبر الفائت بتظاهرات واحتجاجات إثر وفاة طبيب في مستشفى حكومي بمحافظة جندوبة (شمال غرب) المهمشة بعد أن سقط به مصعد معطل أثناء مباشرة مهامه.

هجرة الأدمغة تؤثر على جميع اختصاصات الطب ما يعزز أوجه القصور في قدرة الدولة على تعويض هذه الكفاءات

وأكدت دراسة نُشرت عام 2020 من قبل طالب دكتوراه شاب في الطب أن هجرة الأدمغة تؤثر على جميع اختصاصات الأطباء والكوادر الصحية، ما يعزز أوجه القصور “لاسيما في المناطق الأقل نموا”.وتوضح الكاتبة العامة في نقابة الأطباء أحلام بالحاج أن الدول التي تشغل هذه الكفاءات “تستفيد دون مقابل من رأس مال بشري بكفاءة عالية”.

ويقول المدير العام للصحة فيصل بن صالح إن هذا “التدفق يقلقنا”، موضحا أن كلفة تكوين طبيب في تونس تقدر بحوالي 46 ألف يورو.

ويخلص المسؤول إلى أنه يمكن أن تُعتبر هجرة الأدمغة “تصديرا لخدمات، ولكن يجب أن يكون هذا مراقبا”، داعيا إلى تنظيم هذه الهجرة باتفاقيات بين الدول.

والمشكلة أوسع بكثير من هجرة الكوادر الطبية، فالأرقام تتحدث عن هجرة أكثر من 100 ألف من الكفاءات وأصحاب الشهادات العليا من مختلف الاختصاصات منذ سنة 2011.

وأغلب هؤلاء مهندسون مختصون في المعلوماتية، يليهم الأطباء والأساتذة الجامعيون ومعظم التخصصات العلمية والتقنية الأخرى.

20