شرف الدين شكري: الأشكال الأدبية توجد في أذهان النقاد فقط

عالم ساحر وجذاب هو عالم مالك حداد ومن يدخل حديقته ويغوص في نصوصه يتلبس به. وقد تأثر الكاتب والمترجم الجزائري شرف الدين شكري بكتابات مالك حداد في أغلب نصوصه التي نشرها على غرار كتاب “الهوامش الكونية” بأجزائه الثلاثة ومجموعته القصصية “سفرة المنتهى” وكذلك روايته “جبل نابليون الحزين”. “العرب” التقت شرف الدين شكري للغوص أكثر في عالمه الأدبي والحديث حول مستجدات وتحديات الساحة الثقافية الجزائرية والعربية، دون أن ننسى طبعا خفايا ترجماته لنصوص مالك حداد وبحوثه الكثيرة حوله.
الاثنين 2015/12/07
المبدع ليس ملزما باقتفاء آثار الحقيقة

يعتبر الكاتب والمترجم الجزائري شرف الدين شكري أحد أهم المهتمين بحياة وأعمال الكاتب الجزائري مالك حداد لذلك فقد خصص أكثر من عقدين من حياته ليبحث عن النصوص النادرة والضائعة لهذا الكاتب المتفرد وينقب في سيرة حياته الزاخرة، والأهم من كل ذلك هو ترجمة شكري لأهم أعمال مالك حداد مثل رواية “التلميذ والدرس” ومختارات من أشعار ونصوص مالك حداد التي صدرت بعنوان “عام جديد بلون الكرز” دون أن ننسى الكتاب المهم “تأملات أركيولوجية في حياة مالك حداد”.

الكتابة حب

“أنت تكتب لأنك تحب، إذا لم تكن كذلك.. فضع القلم” يقول مالك حداد في “الشقاء في خطر”، عن تجربة الكتابة يرى شرف الدين شكري أنه ما من دليل على الكتابة، بل هناك تربية ودُربة وملكة، واشتغال حثيث، وإنتاج وصناعة.

إن الكتابة بالنسبة إليه نوع من الحمل الذي تحدّث عنه نيتشه، حمل يأتي بعد تزاوج لذيذ ومخاض عسير. أول ما يمكن أن ترتبط به الكتابة، في رأيه، هو المغامرة والمخاطرة، حين تتحول إلى شيء احترافي، ومع الوقت نعتاد على حبّ ما نقوم به، كما يعتاد المجنون على البيت الذي يحميه من حجارة أطفال الحياة.

يقول شكري: تتطلب الكتابة، قوة جسدية من أجل المطالعة المضنية، وجرأة على التخلي عن مسؤولياتنا تجاه متطلبات الحياة اليومية، وخبثا للتوغل في خبايا وهفوات الآخرين، وشجاعة لقول كل هذا. فالحبّ ليس مسموحا به إلا للإنسان الحر، ولا يمكن له أن يقترن أبدا بأي نوع من أنواع التغطية أو كتم الأحاسيس أو الخوف من اكتشاف غير المعروف.

الكتابة تتطلب قوة جسدية من أجل المطالعة، وجرأة على التخلي عن مسؤولياتنا تجاه الحياة اليومية

أينما تريد أن تقحم نفسك فلتفعل؛ هذا هو منطق المحبّ تجاه حبيبه، وهذا هو منطق الكتابة تجاه النصّ. عن هذا التواشج الكبير بين الشعر والنثر والتأمل الفلسفي في كتاباته، نذكر مثلا مجموعته القصصية “سفرة المنتهى” وروايته “جبل نابليون الحزين”، يقول شرف الدين شكري: قد تختلف المجموعة القصصية في شكلها وروحها عن الرواية، لأنها كُتبت قبل الخوض في عوالم مالك حداد، عام 1994، حين كانت الحرب الأهلية في الجزائر تضرب أطنابها. بعد التعرف على مالك، تغيّر منظوري إلى العالم، وإلى الكتابة والموقف والفضاء الأدبي، كما يسميه موريس بلانشو، ولكنني التقيت معه في رؤى عدّة ونسق فني مشترك.

يضيف: تأسرني النصوص الرفيعة، وأما عن الشعرية الرفيعة أو ما أبتغيه في كتاباتي، فذلك نوع معين من الكتابة لا غير، التي تعتمد على التلميح، والعمق في الرؤية، وعدم المباشرتية، والاسترسال في المعنى المتجدد، والثقافة العالية العالمة.

وفي سياق متصل يبرز هذا التداخل والتواشج بين الأجناس الأدبية، بشكل خاص في كتاب “الهوامش الكونية” بجزأيه الأول والثاني، فهل كان هذا من قبيل الثورة على الأشكال والأنساق الأدبية المتعارف عليها؟ يجيب ضيفنا: لا أؤمن بالأعمال التي لا ترتبط في ما بينها ضمن مشروع موحّد. الكتابات المتناثرة التي لا تحمل رؤية تخلّف شراذم أفكار ليس إلاّ. “الهوامش الكونية”، هو مشروع فني/ أدبي ضخم أشتغل عليه منذ عشرين سنة إلى الآن. فالأشكال الأدبية، لا توجد إلا في ذهنية النقاد: بالنسبة إلينا توجد الكتابة، لا غير.

المبدع ليس نزيها

شرف الدين شكري: مالك حداد غـير من رؤيتي للعالم لذلك أواصل ترجمة أعماله

للوهلة الأولى يحيلنا عنوان روايته “جبل نابليون الحزين” إلى أننا أمام رواية تاريخية تمتح أحداثها من الذاكرة الجمعية ومن التاريخ، يعلق ضيفنا على ذلك قائلا: تاريخنا المشترك مع فرنسا تاريخ دموي، فيه بعض من الثقافة، وبعض من الحضارة.

التاريخ ماكر بطبعه، كما يقول ماركس. شق الحب الذي كان بيننا، ربما حمله بعض مهندسي الدولة المستعمرة لبلدنا، مثل السّان سيمونيين، الذين كانوا تحت وصاية نابليون الثالث، والذين بنوا مدننا العصرية فعلا، وشقوا الطرق ورفعوا الغبن عن المناطق النائية، كي تبدأ إمبراطورية فرنسا الكبرى.. معلم تاريخي كبير مختوم باسم نابليون الثالث، كان هو ملتقى الشخصيتين البارزتين بالرواية، لكنها ليست رواية تاريخية طبعا، وربما هي تصنع تاريخها الخاص، وهو الهدف من وراء هذه الرواية، الذي تحدّث عنه جورج طرابيشي.

كل المشتغلين في حقل الترجمة يعرفون ويقرّون بصعوبة ترجمة الشعر مقارنة بالنثر، فما بالك بالترجمة لشاعر مثل مالك حداد عرف بتطويعه الكبير للغة وبشعريته، لكن الباحث والمترجم الجزائري شرف الدين شكري يقرّ أنه اشتغل على أعماله الثلاثة، التي صدرت في مجموعة “عام جديد بلون الكرز”، لمدة سنتين ونيف، بعد تكرار قراءتها لأزيد من خمس عشرة سنة.

ويلفت المترجم إلى أن الكاتب كان يتلبّسُه فعلا، فكان يتقمص مواقفه التي يحفظها عن ظهر قلب، وخاصة تلك التي لا يعرفها العامّة، فحياة مالك حداد كانت تحدّيا حقيقيا له، بين محطتين قاصمتين: بلد مُستعمر ثقافيا خاصّة، وهو شيء عميق وخطير، وبلد مستقل وهميا، وخائن لآمال الكثير من المثقفين والحالمين بالديمقراطية التي حرمتهم منها فرنسا.

يقول شكري: لا أعتبر أن الترجمة خيانة للّغة، فما كنت خائنا، ولكنها سلوك أمين وصرامة مؤلمة جدا تجاه النص، وصنعة وحذق. كان البعض من الجمل يستوقفني لأزيد من أسبوع للتفكير في كنه مضمونه، وحين كنت أعجز عن الترجمة، كنت أتركها لحال سبيلها حالما تستوي. كانت بعض الجمل تحتوي على إحالات لمواقف معينة في حياة الكاتب والتاريخ الذي وجب الاطلاع عليهما، لذلك فإن الترجمة حمّالة أوجه وكلّما كُنتَ مطّلعا، كلما كنتَ أكثر صدقا تجاه النصّ. لا توجد ترجمة متطابقة، ولكن يوجد معنى ونص جديدان يتواصلان عبر الزمن مع النصّ الأصلي، لذلك فإن الترجمة الأدبية ثقافة، وليست مهنة.

هناك فرق كبير بين المثقف والمبدع، الاشتغال في حقل الإبداع أكثر خطورة ومغامرة منه على العمل في حقل الثقافة

ويذكر شرف الدين شكري أنه في قمة الحضارة الإسلامية العربية، كان المُترجم يؤتى أجره ذهبا بوزن ما ترجَمَهُ، لأن الاطلاع على ثقافة الآخرين من أجل بناء حضارة لا تزول، كان هو الهدف الأسمى للحضارة العربية آنذاك.

ويضيف: لكن اليوم، ولأن أنظمتنا تشبّعت بما يكفيها من ثقافة الجهل والعنف والمصلحة المادية التي لا تُشبع، وتحوّل الأكل والملبس إلى غاية، إضافة إلى تعثّر الجامعة العربية عن بلوغ الرّكب الحداثي، وسيطرة الفكر المتديّن العابر للقارات، والاكتفاء بالتكرار واعتبار الخروج عن ذلك بدعة، وعيش المثقفين في مراكب نائية معزولة، لأنهم يشكلون تهديدا لآلة التكرار، فإن الترجمة إلى اللغة العربية هي الأكثر تخلفا من بين جميع الترجمات التي تصدر في العالم سنويا.

يجيب المفكر نعوم تشومسكي عن سؤال: ما هي مهمة المثقف؟ بـ”أن يقول الصدق ويفضح الأكاذيب”، فكيف يرى شرف الدين شكري دور المثقف العربي اليوم؟ يقول شكري: هناك فرق كبير بين المثقف والمبدع. الاشتغال في حقل الإبداع أكثر خطورة ومغامرة وثقافة منه على العمل في حقل الثقافة، لا غير، الألغام في مجال الإبداع متنوعة ومتعدّدة، وتتطلب نوعا من الخبث الجمــيل من أجـل الاقتراب من النص الإبداعي.

المُبدع ليس ملزما باقتفاء آثار الحقيقة، بل هو مصنع أحلام وأوهام وحقائق مغايرة تماما، تنسينا همّ الحقيقة، حسب التعبير الفوكوي. المبدع ليس ملزما بأن يكون نزيها تجاه واقعه والمواقف الإنسانية، بقدر التزامه بالتمايز والاختلاف.

15