شرفات المنازل في المغرب.. من حميمية الداخل إلى جاذبية الخارج

الرباط - في شرفة شقتها المطلة على أحد أزقة حي النصر بتمارة، اعتادت نزهة وهي شابة محاسبة في الثلاثينات من عمرها، ارتشاف قهوتها المفضلة كل صباح قبل الانطلاق إلى العمل.
وعلى عكس البعض، لا تحلي نزهة قهوتها بالسكر وإنما بنسيم الصباح وبإطلالة خفيفة على العابرين هنا وهناك. طقس، تقول نزهة إن شروطه لا تتحقق إلا في شرفة شقتها بعيدا عن عائلتها التي تعيش في الرباط.
وقالت لوكالة المغرب العربي للأنباء “على عكس جميع غرف الشقة، أجد راحة كبيرة في احتساء كأس من القهوة أو الشاي داخل الشرفة صباحا، والجلوس فيها لمطالعة كتاب أو مجلة ليلا، وهو ما يمدني بطاقة إيجابية تحسن المزاج وتساعدني على الهدوء والتأمل والاسترخاء”.
وعلى غرار نزهة، يقوم محمد وهو موظف متقاعد في الحادية والسبعين من عمره بقضاء ما تيسر من وقته في شرفة شقته المطلة على البحر بإقامة الصباح في الرباط.
وأوضح محمد أن الشرفة فضاء مثالي خاصة لمن هم في مثل سنه وأن أهميتها ازدادت أكثر خلال فترة الحجر الصحي، مضيفا أن “الشرفة مهمة جدا في البنايات الحديثة لأنها تمنحنا إطلالة كاملة على الخارج. ففي شرفة شقتي مثلا، أطالع الجرائد وأتناول الإفطار صباحا، وفيها أحتسي القهوة وأستمتع بنسائم البحر ليلا. ولولاها لبقينا بدون متنفس خلال فترة الحجر الصحي”.

مقابل نزهة ومحمد اللذين تعتبر الشرفة ركنهما المفضل في البيت، لا ينظر البعض إلى الموضوع من نفس الزاوية. من هؤلاء مثلا، زينب التي تعيش رفقة عائلتها بمدينة سلا.
أول ما تقع عليه العين عند زيارة منزلها هو الستائر السميكة المسدلة على ما يفترض أن يظل مكشوفا في الشرفات. وفي تفسيرها لسبب ذلك قالت “لدينا خمس شرفات، قمنا بإسدال الستائر عليها كلها لأننا لا نستعملها أبدا، ونفضل بدلا منها الجلوس في حديقة المنزل التي تمنحنا خصوصية أكبر. ولو لم تكن لدينا حديقة لاستعملنا الشرفات مكرهين لأنها تقيد حريتنا، إذ سيتطلب الأمر حينها أن نظهر بملابس محتشمة مقارنة بتلك التي نرتديها داخل المنزل”.
نفس الرأي أبداه مهدي من مدينة تمارة، فبالنسبة إلى هذا المواطن، الشرفة بهندستها الأولية ليست ضرورية، لذلك يعتزم إغلاقها بالزجاج أو الألومنيوم مع ترك نافذة صغيرة للإطلالة على الشارع العام. موقف علله مهدي، قائلا “ككل الناس لدي خصوصيات لا أحب أن يطلع عليها الغرباء. فقد أرغب أنا وزوجتي بالجلوس في الشرفة بملابس النوم لكننا لن نستطيع ذلك بسبب الأعين المترصدة للجيران، لذلك أفضل إغلاق الشرفة والاستفادة منها كمساحة إضافية لتخزين الأغراض التي لا نستعملها كثيرا”.
وفي ظل الاختلاف الواضح في تعامل المغاربة مع شرفات بيوتهم، يقول أستاذ الدراسات الثقافية بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة مراد مكينسي “ربما يمكننا تفسير ذلك بضيق السكن والحاجة إلى مساحة داخلية أكبر. لكن وبما أن الأمر يلاحظ في أحياء لا تطرح فيها مشكلة ضيق المساحة، يصبح تفسير الظاهرة رهينا بعوامل أخرى تتعلق أساسا بمفهوم الفضاء في الثقافة المغربية”.
وهو مفهوم يرى مكينسي أن البعد الثقافي وحتى الأنثروبولوجي ضروريان لسبر أغواره. فعلى عكس الثقافة الغربية “تحرص الثقافة التقليدية المغربية على تقديس الفضاء الخاص وحمايته من التطفل والتدخل الخارجي. لهذا تميل هندسة البيوت التقليدية المغربية إلى تقليص الإطلالات على الخارج، واللجوء عوض ذلك إلى الأفنية والأسطح المفتوحة على السماء حفظا لخصوصيات الأفراد التي تختلف من شخص إلى آخر حسب السن والطبقة الاجتماعية والمستوى التعليمي ودرجة التشبث بالتقاليد”.

ويرى الأكاديمي المغربي أنه من الممكن ربط إغلاق الشرفات كذلك بالنوع الاجتماعي لأن الفضاء الخاص يرتبط في الفكر التقليدي بالنساء بينما يرتبط الفضاء العام بالرجال، مستدلا على ذلك بأفكار السوسيولوجية المغربية الراحلة فاطمة المرنيسي التي تناولت في هذا الصدد أهمية ما سمّتها بـ”الحدود”، ودورها الرئيسي في تنظيم العلاقات الاجتماعية بين الرجال والنساء. وما الهندسة حسب الأكاديمي المغربي “إلا أداة تعطي شكلا ملموسا لهذه الحدود”.
والتأثير المحتمل للتصورات الثقافية على شكل شرفات البيوت وطريقة تعامل المغاربة معها باعتبارها هندسة غربية وغريبة على المجتمع، طرح أيده المهندس المعماري خالد العدولي الذي أوضح أنه “على عكس البيوت الغربية المنفتحة على الخارج، يكون البيت في البنيان الإسلامي منغلقا على نفسه. فنجد شرفاته تطل على الفناء الداخلي فقط، أما إذا نظرنا إليه من الخارج لا نجد في الغالب سوى المُشْربيات، وهي إطلالات تبنى بالخشب أو الحجر المزخرف وفيها ثقوب تسمح للمرأة أساسا أن تَرى ولا تُرى”.
ويرى المعماري المغربي أن تغيير معالم الشرفات أو إغلاقها بطريقة أو بأخرى، لا يشوه المنظر العام فحسب، بل يخالف القواعد القانونية للتعمير أيضا. ويقول “في المغرب، يمنع قانون التعمير إغلاق أو تغيير معالم الشرفات ويفرض على المقاولين والمهندسين تجنب تصميم وإنشاء البنايات على شكل صناديق مغلقة. ويحق للجماعة أو البلدية التدخل ومنع أي شخص يغير أو يغلق شرفة بيته لأن ذلك يؤثر سلبا على جمالية البنايات والأحياء فتصبح أشبه ما تكون بامتداد عمودي لدور الصفيح”.