شخصيات تهرب من العراق خائفة وتعود إليه مشوّهة

تقوم رواية “الاسم على الأخمص” للروائي العراقي ضياء الجبيلي، الصادرة مؤخرا عن دار سطور النشر والتوزيع، على لعبة استنطاق الواقع العراقي منذ الستينات من القرن الماضي وإلى لحظتنا المعاصرة، فهي رواية أجيال وصراعات وهزائم وكشوفات، إذ حاول من خلالها الروائي أن يتصدّى للتحولات التي عاشتها الشخصية العراقية مع صعود حزب البعث إلى السلطة بعد انقلاب عام 1963، وما تعرّضت له الجماعات الشيوعية من مطاردات واعتقالات في أقبية الأمن، وهروبات إلى المجهول، وانتهاء باحتلال العراق في 2003، واحتلال الموصل عام 2014.
هذه التحولات الواقعية تقابلها تحولات سردية، جَهدَ الروائي في تأطير حراكها وموجّهات عُنفها التخييلي، من خلال الطابع الهروبي لشخصياته، وما تعانيه من تناقضات ومفارقات، انعكست بشكل عميق على مصائرها.
شخصيات ومصائر
“نعيم، عبدالحميد، عبدالمجيد، هنودة، عوف، صوفي، لويس، السيد النائب/ حمزة المحلداري، نينيل، كوليا/ اسد الشيشان، بوشا/ نورا”، شخصيات الرواية الرئيسية تعيش محنة مصائرها الغرائبية من خلال سلسلة هروباتها، ومن طبيعة التحولات المفارقة التي تورطت بها، فهي تحولات في الذات المهزوزة والمضطربة، مثلما هي التحولات الضدية في الواقع وفي مسرح الأحداث، إذ عاشت من خلالها رهابات هذا التحوّل في فنتازيته المتخيلة، وفي تداخل الفضاءات الحكائية التي اعتمدها الروائي، فعبر حكايتين رئيسيتين تنطلقان من مدينة البصرة، تبدو أحداث الرواية وكأنها تمثّلات لرصد محنة المكان والشخصية، وللتحولات الحادثة في مضمار عوالمهما السردية، حيث جسّدا بُعدين سيمائيين لهما دلالتهما في توصيف اغترابهما في الزمن السياسي العراقي.
سعي الرواية لاستنطاق التاريخ أو الواقع أو السيرة، يضعنا أمام كشوفات ومعطيات يشتبك فيها السرد بمستوى فتنته وتخيلاته، مع المكوّنات الأخرى التي تخص “حياة السرد” في تمثلاتها لوحدات الزمان والمكان، ولبناء الشخصيات ولمهارة الروائي في سردنة مظاهر التاريخ والواقع، وفي معالجته لوظائف عنف التخييل السردي للأحداث والصراعات التي ينشغل في كتابتها
الحكاية الأولى تبدأ مع الموسيقي القاتل لعمّه والهارب من جبهات الحرب العراقية إلى الولايات المتحدة عام 1991، حيث اغترابه العاطفي والجنسي والقيمي، وتحوله من موسيقي هامشي في الشوارع والحانات إلى زوج فاشل وعدواني، وإلى مجرم سفاح يرتكب جريمة قتل ابنته بسبب تمثلها لنمط الحياة الأميركية، وإلى متطرف ثأري وإرهابي يُقدِم على الانخراط مع الجماعات الإرهابية في سوريا والعراق، وليتحوّل ابنه -بالمقابل- من زوجته الأميركية صوفي إلى قناص في الجيش الأميركي الغازي للعراق كنوع من الثأرية النفسية التعويضية.
الحكاية الثانية تبدأ مع حكاية الشيوعي الذي سمّاه الروائي بـ”السيد النائب” أو حمزة الحمل دار من خلال تتبع رحلته الأضحوية، وانتمائه الفنتازي للحركة الشيوعية بتحريض من خاله الفلاح الشيوعي عطية، حيث تعرّض بسبب ذلك إلى الاعتقال والسجن بعد أحداث 1963 في العراق، وليواصل سلسلة هروباته المتعددة إلى إيران وعبر أذربيجان إلى الاتحاد السوفييتي السابق دارسا في معاهده الحزبية، وليتزوج من الستالينية نينيل، ويتحمل كلّ حماقاتها وقسوتها وتمردها.
وعبر استطرادات أكثرَ منها الروائي، سلّط الضوء على هواجس تحوّله، وهروبه بمعناه الرمزي والسياسي، حيث يتمرد على تاريخه الحزبي الشيوعي، ولينخرط بتحولات نفسية ودينية وسياسية تقوده للمشاركة مع “المعارضة الإسلاموية” التي جاءت مع الاحتلال الأميركي، حيث يتحوّل إلى أحد رموزها الدينية والسياسية، تاركا طفله الصغير في أحد ملاجئ الأيتام في موسكو، والذي سيخضع هو الآخر إلى هيمنة التحوّل السردي بعد تعرّضه للاغتصاب في الملجأ، وليصبح في ما بعد رمزا للإرهاب الطائفي والسياسي تحت اسم “أسد الشيشان”.
مصائر الشخصيات في الرواية تعكس طبيعة التغيّرات العميقة في الواقع العراقي، وتأثير الاستبدادات والحروب والصراع الأهلي في تشكيل عوالمها الخارجية، وهذه الشخصيات هي ضحايا للفقر والهامشية، والوعي السطحي في تشوّه عوالمها الداخلية، وحتى ثيمة الهروب الواقعي من الأمكنة، والهروب الرمزي عبر الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ومن الهامش إلى التطرّف والإرهاب، ليست بعيدة عن الدلالة الرمزية النقدية لسرديات الأمكنة الكبرى، ولا عن معطيات التمثّل النفسي والثقافي والوجودي المشوّه لهذه الشخصيات القلقة وغير المستقرة.
هواجس الخلاص
الرؤية السردية التي اعتمدها صاحب رواية “لعنة ماركيز” قامت على فكرة تقاطع تلك المصائر، وعلى تنامي وحدات السرد في فصولها الأربعة، وعبر رمزية واضحة لصياغة أنموذجه السردي، بوصفه أنموذجا تمثيليا وأضحويا أولا، وأنموذجا نكوصيا يعيش قلق التحوّل ورهاباته ثانيا، حيث حاول من خلال هذه التمثّلات إدانة الحروب والأيديولوجيات الدوغمائية، وإدانة المنافي، وحتى إدانة أوهام الخلاص التي اندفعت إليها الشخصيات الروائية عبر تطرفها الديني الطائفي والأيديولوجي، فمحنة الشخصية في الرواية ليست بالضرورة محنة تاريخية بالكامل، بقدر ما هي محنة مُعقّدة يشتبك فيها الانسحاق السياسي والأخلاقي والثقافي في مجتمعاتنا.
إن سعي الراوي لتشكيل عمران روايته عبر المستوى الحكائي لم تعفه من بعض الترهل، واستغراقه في استطرادات كثيرة، وغير مبررة، لا سيما في الحديث الشتائمي بين عوف وأسد الشيشان، وحتى في تتبع الهروبات المكانية للشخصيات، والتي كان يمكن للروائي اختصارها، دون إخلال بالسياق الحكواتي للرواية، ولسياق تحولات شخصياتها في مهاجرهم المكانية والرمزية.
مهارة الروائي الجبيلي وديناميته في السرد ليستا خافيتين عن العين الناقدة، حيث تُميز مشغله في مقاربة مجال الأنثربولوجيا السردية، والتعاطي مع محنة الهويات العراقية، والتي ابتدأها مع رواية “أسد البصرة” ولتجد في رواية “الاسم على الأخمص” بعدا أكثر تمثيلا لهذا الاغتراب الهوياتي وللصراع النفسي، ورعب التحوّل الذي تصنعه الحروب والصراعات والاغترابات، وعبر تقنيات “الأكشن” وحركة عين الكاميرا، وحيوية مهاراته في تصوير ملامح شخصياته ورثاثتها، وتتبع هواجس تحولاتهم الداخلية، ومعاناة تلك الشخصيات وتحولاتها وكأنها تمثّلات عدمية للوقائع العراقية التراجيدية في القرن الـ21.