شح السيولة النقدية يغرق السوريين في دوامة خانقة

تذمر شعبي من سوء إدارة الأزمة المالية المستفحلة ومطالبات بتخفيف القيود المفروضة على السحب.
السبت 2025/04/19
الراتب لمن استطاع إليه سبيلا

يختزل النقص الحاد في السيولة النقدية جبل الأزمات والتحدّيات الكبيرة التي يواجهها الاقتصاد السوري، في ظل محاولات حكومية تبدو بلا خيارات على المدى القريب بالنظر إلى استمرار بعض العقوبات الغربية وصعوبة تحسين المؤشرات، رغم وعود المسؤولين بحلها سريعا من خلال الانفتاح على الخارج.

دمشق - ترخي مشكلة شح السيولة النقدية في سوريا بظلالها على الوضع العام الذي يواجهه المواطنون والتجار وقطاع الأعمال وسط جبل من الأزمات تسعى الإدارة الجديدة إلى حلها نتيجة تركة ثقيلة خلفها نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد.

وفي بلد يعمل في قطاعه العام نحو 1.25 مليون شخص بحسب السلطات، يضطر الموظفون إلى الوقوف ساعات في طوابير أمام فروع البنوك الحكومية أو أجهزة الصراف الآلي.

ويأخذ بعضهم إجازة من عملهم لقضاء يوم كامل في محاولة لسحب جزء بسيط من رواتبهم. وينسحب ذلك على المودعين الراغبين في سحب البعض من مدّخراتهم بالليرة.

وأمام كوة المصرف التجاري الحكومي، وقف نحو ثلاثمئة شخص في طوابير متداخلة تتقدم ببطء، ومنهم من جلس على الأرض بعدما أتعبه طول الوقوف.

جورج خزام: الصرافون جزء من الأزمة لأنهم يريدون الربح السريع
جورج خزام: الصرافون جزء من الأزمة لأنهم يريدون الربح السريع

ويجلس أبوفارس على قارعة الرصيف ليستريح بعدما انتظر ساعات في طابور أمام المصرف في دمشق، دون الحصول على جزء ولو يسير من راتبه، حاله كحال سوريين كثر يختبرون المشقة ذاتها يوميا بسبب نقص السيولة.

ويقول الموظف المتقاعد البالغ 77 عاما لوكالة فرانس برس “أنا هنا منذ نحو أربع ساعات، ولم أستطع استلام راتبي بعد”. ويوضح “هناك مرضى وكبار في السن، ولا نستطيع أن نبقى على هذه الحالة”.

ويضيف أثناء انتظاره تحت أشعة الشمس مع عشرات آخرين أمام فرع المصرف التجاري السوري وسط العاصمة “هناك طوابير طويلة من الناس، ولا أموال كافية في الصرافات الآلية”.

وفرض المصرف المركزي في فبراير قيودا على سحب الأموال من البنوك والصرافات الآلية، ما وضع السوريين أمام أزمة تضاف إلى سلسلة من المشكلات الاقتصادية التي يعانونها، موروثة من حكم الأسد الذي أطاحته فصائل معارضة في ديسمبر الماضي.

وأنهك النزاع في سوريا الذي امتد 14 عاما الاقتصاد المحلي، وزادت أزماته حدة عقوبات فرضتها دول عدة خصوصا الغربية منها، على النظام السابق.

وعمّم المركزي على البنوك الحكومية والخاصة الالتزام بسقف يومي بسحب 200 ألف ليرة (نحو 20 دولارا) للفرد، يمكن زيادتها حين تتوفر السيولة، بحسب موظفة في مصرف خاص.

وتضيف الموظفة لفرانس برس طالبة عدم كشف هويتها “هناك نقص واضح في السيولة، وليس لدينا تحكم بكامل إيداعات مصرفنا في البنك المركزي”.

وأضافت “بالتالي نتحرك يوميا مع متعاملينا ضمن ميزانية محددة لا يمكن تجاوزها، ولهذا السبب أيضا نغلق الصرافات مع انتهاء الدوام الرسمي”.

وضاعفت هذه الأزمة أعباء السوريين في بلد يعيش 90 في المئة من سكانه تحت خط الفقر، وفقا للأمم المتحدة. وقام بعض الأطراف، ومنهم الاتحاد الأوروبي، بتخفيف العقوبات عن دمشق، لكن ذلك لم ينعكس بعد بشكل ملموس على حياة الناس.

وتؤكد الموظفة الحكومية عفراء جمعة (43 عاما) أنها تنفق الأموال التي تتمكن من سحبها، لدفع أجرة الطريق. وتقول “الأوضاع صعبة ونحن بحاجة إلى قبض رواتبنا وسحب ودائعنا بأسرع وقت ممكن، وليس مقبولا أن ننتظر أياما كي نسحب مبالغ زهيدة”.

أكوام مالية دون قيمة نقدية
أكوام مالية دون قيمة نقدية

وتضيف لفرانس براس “نضطر إلى تأخير التزاماتنا حتى نحصل على أموالنا، وهذا الأمر ليس متاحا دائما، والناس تطالبنا بالإيجارات وإغلاق الديون المتراكمة علينا”.

وعقب اندلاع النزاع وفي ظل العقوبات الاقتصادية على الحكم السابق، باتت طباعة الأوراق النقدية السورية تتمّ حصرا في روسيا التي كانت حليفة للأسد ولجأ إليها مع تقدم الفصائل المعارضة إلى دمشق أواخر العام الماضي.

وبعد الإطاحة بالرئيس السوري، تلقت دمشق شحنة واحدة معلنة على الأقل من الأموال النقدية المطبوعة في روسيا.

وأفاد المركزي لوكالة الأنباء الرسمية السورية في فبراير بوصول “مبالغ مالية من فئة الليرة قادمة من روسيا”، دون أن يكشف عن كميتها أو حجمها.

ويعزو الخبير الاقتصادي جورج خزام نقص الكتلة النقدية المتداولة إلى تعمّد الصرافين “تجفيف السيولة بالليرة بهدف إحداث تقلبات سريعة في السوق وتحقيق أرباح سريعة.”

ويوضح لفرانس برس “كلما كانت كمية الأموال المتداولة بالليرة بالأسواق قليلة، كلما زادت قدرة الصرافين على إحداث التقلب المطلوب في سعر صرف الدولار” عبر خفض العملة المحلية في سوق القطع، وتاليا رفع قيمتها إزاء العملة الخضراء.

ويعد تحسين سعر صرف الليرة من أبرز التحديات المالية في سوريا بعد تدهور قيمتها مقابل الدولار. وقبل اندلاع النزاع عام 2011، كان الدولار يساوي نحو 50 ليرة، قبل أن تتهاوى العملة المحلية تدريجيا وتفقد أكثر من 90 في المئة من قيمتها.

ويناهز سعر الصرف الرسمي في الآونة الأخيرة 10 آلاف ليرة مقابل الدولار، بينما كان يراوح عند مستوى 15 ألفا في الأشهر التي سبقت إسقاط الأسد.

20

دولارا سقف السحب اليومي للفرد والذي تلتزم به البنوك بموجب تعميم من المركزي

ومن بين الواقفين خارج المصرف التجاري منتهى عباس (37 عاما) التي تتقاضى راتبا شهريا قدره 500 ألف ليرة، ما يعادل نحو 50 دولارا. ووفق قيود السحب، تحتاج هذه الموظفة الحكومية إلى ثلاث محاولات لأخذ راتبها الشهري كاملا.

وبعدما انتظرت السيدة التي تضع حجابا أبيض اللون خمس ساعات، تمكنت من الحصول على 200 ألف ليرة على أن تكرر محاولة أخذ ما تبقى في اليوم التالي.

وتقول عباس لوكالة فرانس برس “هناك الكثير من الصرافات في دمشق، لكن ما يعمل منها هو عدد قليل، والسبب برأيي عدم وجود كميات كافية من الأموال”. وتضيف “حياتنا باتت عبارة عن طوابير”.

وأُعيد تصنيف سوريا إلى فئة البلدان ذات الدخل المنخفض من قبل البنك الدولي في 2018، مع انهيار الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من النصف بين عامي 2010 و2020.

وفي تقرير صدر في فبراير، قال برنامج الأمم المتحدة الإنمائي “لقد لعبت العقوبات دورا رئيسيا في عزل سوريا عن النظام المالي العالمي، وتقييد التجارة، وزيادة تكاليف الاستيراد، والحد بشكل كبير من الصادرات والتحويلات المالية”.

وورد بالتقرير أن “تخفيف العقوبات وتحسين الوصول إلى الأسواق العالمية سيكونان أمرين حاسمين في تعزيز الآفاق الاقتصادية في سوريا، وتعزيز تعافيها، وفي النهاية تعزيز السلام على المدى الطويل”.

10