شح السلع يجبر المتاجر في تونس على تقنين المبيعات

تجمع الأوساط الاقتصادية على أن أزمة التزويد التي تعاني منها الأسواق التجارية التونسية منذ فترة مردها سوء إدارة السلطات للمشكلة خاصة في ظل اختلال التوازنات المالية، بينما تضغط الأسعار على المستهلكين بشدة ما قد يؤدي إلى تحطم قدرتهم الشرائية بالكامل.
تونس – علقت المتاجر ومحلات السوبرماركت الكبرى في تونس تنبيهات لزبائنها حددت فيها كمية الشراء بالنسبة إلى بعض المنتجات، ومنها مثلا علبة أو علبتين على الأكثر من الحليب والقهوة والزبدة والمياه المعلبة والتبغ ومواد أخرى، بينما الأسعار في ارتفاع.
وهذا الواقع الذي يتكرر مرة أخرى بعدما شهدت السوق المحلية مثله قبل سنوات قليلة إثر أحداث 2011، ينذر بفترة قادمة قد تشتد فيها ندرة مجموعة واسعة من السلع رغم عودة انسيابية سلاسل الإمدادات العالمية.
وتفتقد العديد من المتاجر ولاسيما في العاصمة تونس الزيت النباتي المدعم والسكر والقهوة؛ فيما تنتشر في الشبكات الاجتماعية صور للرفوف في المحلات التجارية وهي خاوية.
محسن حسن: ما يحدث أمر خطير في ظل تدني القدرة الشرائية للناس
وتلقي السلطات بالمسؤولية عن هذا النقص على عاتق أزمة عالمية في السلع والمحتكرين والمضاربين المحليين وتنفي أنها تواجه مشكلات في سداد قيمة الواردات.
وقالت الرئاسة التونسية الجمعة الماضي إن الرئيس قيس سعيّد جال بمدينة عوسجة في ولاية (محافظة) بنزرت شمال البلاد، حيث التقى عددا من المزارعين الذين يبيعون منتوجاتهم بأسعار تغطي كلفة الإنتاج.
وذكرت أن أسعار المنتجات من جانب المزارعين مقبولة “ولا وجه للمقارنة بينها وبين الأسعار المعمول بها في عدد من الأسواق، بما يقيم الدليل على أن فقدان بعض المواد لا يعود إلى ندرة الإنتاج بل هو نتيجة لممارسات المحتكرين”.
لكن أستاذ الاقتصاد ووزير التجارة الأسبق محسن حسن أكد أنه “لأول مرّة في تاريخ تونس نتعرض بهذه الحدّة على مستوى انتظام تزويد السوق وعلى مستوى ارتفاع الأسعار”.
وأشارت بيانات معهد الإحصاء إلى أن التضخم بلغ بنهاية الشهر الماضي 8.6 في المئة ارتفاعا من 6.7 في المئة في يناير الماضي.
واعتبر حسن في تصريحات لوكالة الأناضول أن “هذا أمر خطير سيؤدي إلى قلاقل اجتماعية وتدني القدرة الشرائية للمستهلكين بأكثر من 21.5 في المئة بين يناير 2020 ويوليو الماضي، إضافة إلى تآكل الطبقة الوسطى”.
ورأى أن الأسباب الكامنة وراء عدم انتظام التزويد بالسلع الأساسية وارتفاع الأسعار، هي الظروف الدولية بعد أزمة كورونا والحرب الروسية – الأوكرانية. وأكد أنه “ثمة نقص في إمدادات العديد من المواد الأساسية وارتفاع الأسعار”.
عزالدين سعيدان: المؤسسات المعنية بالتزويد تواجه مشاكل ثقة في الدفع
وتستورد تونس جزءا كبيرا من حاجياتها، بما يشكل 90 في المئة من مجمل الاستهلاك المحلي من حاجياتها من القمح اللين، وتستورد القهوة والسكر.
إلا أن السبب الدولي لا يفسر وحده هذه الندرة للمواد الاستهلاكية الأساسية، بل هناك وفق حسن سبب داخلي يتمثل في ضعف وضعية المالية العامة لأن الدولة تعيش ظرفا خطيرا على مستوى التوازنات الكبرى.
وأوضح أن هذا الظرف لم يمكنها من الإيفاء بتعهداتها تجاه مؤسسات القطاع العام المكلفة بالشراء كديوان الزيت وديوان التجارة وديوان الحبوب والشركة التونسية لصناعات التكرير الحكومية.
وقال حسن إنه “عندما لا تقوم الدولة بسداد التزاماتها تجاه هذه المؤسسات فإن الأخيرة وجدت نفسها في وضعية خطيرة”.
وحسب رأيه فإن وضعية المالية العامة هي السبب الأكبر في نقص المواد الأساسية من الأسواق لأن المواد الأساسية المفقودة هي أساسا مواد تستوردها الدولة وتحتكر توزيعها وتحدد أسعارها.
وإذا كانت وضعية المالية تفسر الندرة، فإن هناك عاملا داخليا آخر، يتمثل في ضعف الإنتاج الوطني، وهناك سوء حوكمة للمنظومات الزراعية، وسوء خيارات على مستوى السياسات القطاعية، وخاصة تلك التي تتعلق بالأمن الغذائي.
ويوافق الأكاديمي والخبير الاقتصادي عزالدين سعيدان، حسن في ما ذهب إليه من حدّة الندرة، إلا أنه يعتبر أن “السبب الأساسي والأهم هو الوضع الصعب جدا الذي تمر به المالية العامة”.
وقال سعيدان “لا بد من التذكير أن الدولة لم تسدد مستحقات المؤسسات وخاصة تلك المتأتية من صندوق التعويض”.
وأضاف “الدولة لم تسدد مستحقات القطاع الخاص في عديد من الميادين، سواء كانت من صندوق التعويض أو فواتير أشغال تم إنجازها لفائدة الدولة، وهذا ما جعل المؤسسات مع الأسف تفقد تماما ثقة المزودين الأجانب وتفقد ثقة البنوك الداخلية والخارجية”.
وأردف “نتيجة ذلك (فقدان الثقة)، نجد اليوم أن المؤسسات إضافة إلى مشاكل ندرة بعض المواد في السوق العالمية لها مشاكل ثقة ومشاكل دفع”.
وبدأ القطاع الخاص أو المزودون الأجانب يشترطون الدفع المسبق مقابل أي عملية استيراد، سواء كانت دواء أو غذاء أو محروقات، وهذا يزيد من الضغط على التوازنات المالية.
وقال سعيدان “يجب أن نفهم أن الدولة هي التي أوصلت مؤسساتها إلى هذا الوضع”. وزاد “ربما حان الوقت للتفكير في خروج الدولة من هذه الأنشطة الاقتصادية، التي لا تليق بالدولة في القرن الحالي أي ألا تكون الدولة تاجرا في السكر والشاي والقهوة، بينما دورها الأساسي هو في الصحة والتربية والأمن والعدالة والبنية التحتية”.
واعتبر أنه في هذا الدور لا يوجد أي طرف يمكن أن يعوّض الدولة، بينما هناك أطراف عديدة يمكن أن تعوّضها في أنشطة اقتصادية بسيطة وهنا دور الدولة في وضع القوانين والترتيب والتأطير والمراقبة.
وحول ما إذا كان التصنيف الائتماني الأخير للاقتصاد التونسي من قبل وكالة فيتش له دور في نظرة المزودين للدولة، قال وزير التجارة الأسبق “هذا مؤكد”.
وفي مارس الماضي خفضت فيتش تصنيف تونس السيادي من بي- إلى سي.سي.سي وهو تنصيف يعني درجة عالية من الخطورة.
وقالت الوكالة في تقرير حينها إن “هذا التصنيف يعكس مخاطر السيولة المالية والخارجية المتزايدة في سياق المزيد من التأخير في الاتفاق على برنامج جديد مع صندوق النقد الدولي”.
وتوقعت أن يستمر العجز في ميزانية تونس عند مستويات مرتفعة في حدود 8.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، مقارنة بنسبة 7.8 في المئة العام الماضي.