شجرة هوكني وخيال الطبيعة

رويال أكاديمي بلندن يقيم الآن معرضا جديدا للرسام البريطاني ديفيد هوكني (1937). معرض هو أشبه باحتفال يقيمه الرسام المشهور لمزاجه قبل أن تقيمه المؤسسة العريقة لأكبر رسام بريطاني حي.
في ذلك المعرض يُظهر هوكني اهتماما عظيما بالشجرة باعتبارها مفردته الجمالية الوحيدة المستعارة من الطبيعة.
قبل أكثر من عشرين سنة فاجأ الرسام الذي اشتهر بأنه رسام مسابح كاليفورنيا حين كان يقيم هناك، ورسام الحياة الشخصية الحميمة بكل تجلياتها محبي فنه بمعرض هو عبارة عن نزهة في الطبيعة، ولكنها كانت نزهة من نوع شخصي.
نزهة لا تشبه أي نزهة قام بها رسام عالمي من قبل، وأخصّ بالذكر هنا انطباعيي باريس الذين ظهروا بعد منتصف القرن التاسع عشر الذين استلهموا الطبيعة بكل تحوّلاتها وأثبتوا أن الواقعية لم تكن مناسبة لتفسير الظاهرة الطبيعية.
واضح أن هوكني كان قد قرّر الدخول في سباق هو نوع من التحدي المزدوج لتراثه الشخصي ولمنجز فني تاريخي ثري بكنوزه التي لا تزال تلعب دورا كبيرا في التحكم بالمزاج البصري العالمي، وهو ما لا تزال زهور كلود مانيه المائية تعلي من شأنه.
ولقد أثبت هوكني أن ثقته بأدواته كانت في محلها. ما فعله غيّر طريقتنا في النظر إلى الطبيعة. على الأقل في ما يتعلق بالكفاءة الانطباعية التي لم تعد هي الأخرى كفيلة بتفسير علاقتنا بالطبيعة. في المعرض الجديد الذي يضم أكثر من أربعين لوحة تبدو الخلاصة واضحة. شجرة وحيدة يمكن أن تكون المقياس لما وصل إليه الرسام من فتوحات بصرية. الطبيعة ليست هي نفسها دائما. ذلك ما أكدّه الانطباعيون.
هوكني أضاف بلاغة من نوع تقني على ذلك الاستنتاج. الرسم يمكنه أن يعيد إلى الطبيعة شيئا من خيالها المفقود. ليست الشجرة موضوعا مهما وليست هي مصدر الإلهام الوحيد بل الرسم هو الذي يلهمها تحوّلاتها. يُعيد إنتاجها لتكون كيانا معماريا لعاطفة لا تزال نضرة.
استعاد هوكني تجربة فنسنت فان غوخ في تأثّره بالمحفورات الخشبية اليابانية، وعلى هذا المستوى يفصح هوكني عن إعجابه العميق بتقنيات الرسام الهولندي، ولكنه لا يكتفي بذلك بل يمضي قدما في تحديث تلك التقنيات وإكسابها طابعا شخصيا.
الدرس البليغ الذي ينطوي عليه ذلك المعرض يكمن في أن رساما كبيرا مثل هوكني، بعمره وشهرته لم يجد مانعا في الالتفات إلى تقنية فنان سبقه ليطوّر من خلالها تجربته الفنية. ذلك ما يخشى الكثيرون القيام به فتظل تجاربهم الفنية محصورة في دائرة تضيق عليهم في استمرار.
