شبكات الجريمة المنظمة تغزو العراق على أرضية الفشل التنموي والاضطراب السياسي والأمني

جرائم ماسة بالشرف في بلد تقوده بشكل رئيسي قوى ترفع لواء الدفاع عن الدين والأخلاق.
الجمعة 2025/06/27
تيار الجريمة أقوى من الجهد الأمني

التحولات المسجلة في طبيعة الجريمة بالعراق من حيث النوع والعدد ليست ظاهرة تلقائية ناتجة عن تحولات طالت أخلاق المجتمع وسيرة أفراده بقدر ما هي إحدى النتائج الجانبية لما شهده البلد خلال العقدين الأخيرين من اضطرابات أمنية وصعوبات اقتصادية وفشل تنموي أحدث طفرة كبيرة في معدلات الفقر والبطالة، جنبا إلى جنب مع تجربة سياسية حاملة لتشوهات جوهرية يلخصها التنافس غير الشريف على السلطة بين قادتها ورموزها والفساد المنتشر في صفوفهم.

بغداد- تحوّلت جرائم كانت إلى عهد قريب تعتبر نادرة الحدوث في العراق من أحداث استثنائية تلفت الانتباه بغرابتها إلى ظواهر شبه اعتيادية متواترة، وذلك في مؤشر على حدوث تحوّلات خطرة في طبيعة الجريمة في البلد كما ونوعا. وهي تحولات غير منفصلة عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي والأمني العام الذي يعتبر خلاصة عقدين من الفشل التنموي والتشوّه السياسي وانتشار الفساد على نطاق واسع بين الطبقة الحاكمة من مختلف مستويات المسؤولية.

ويعاني العراق حالة من الانفجار في الجرائم المتعلقة بالمخدّرات تصنيعا وتهريبا وترويجا واستهلاكا، فيما بدأ يشهد تزايدا ثابتا في جرائم الاستغلال الجنسي وتجارة الأعضاء والاتجار بالبشر بشكل عام.

وبدأت تلك الجرائم تكتسي خطورة مضاعفة نظرا لاكتسابها طابعا منظما بشكل متزايد وهو ما أكدته أرقام حديثة نشرتها وزارة الداخلية التي أعلنت عن تفكيك اثنتين وستين شبكة استغلال جنسي وتسع شبكات لبيع الأعضاء البشرية.

وذكر العقيد عباس البهادلي الناطق باسم الداخلية، الخميس، في منشور على صفحة الوزارة بموقع فيسبوك أنه بالإضافة إلى تلك الشبكات تمّ أيضا خلال النصف الأول من العام الجاري تفكيك خمس عشرة شبكة أخرى متخصصة في العمل القسري وأربع شبكات لبيع الأطفال وست للتسول، مع القبض على اثنين وثمانين متهما بممارسة السحر والشعوذة.

وأصبح العراق يحتلّ مرتبة متقدّمة على لائحة الدول الأكثر مواجهة لظاهرة الجريمة المنظمة وفقا لمؤشّر نشرته في وقت سابق “المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية.”

وأظهر المؤشّر احتلال البلد للمرتبة الثامنة عالميا من بين مئة وثلاث وتسعين دولة والمرتبة الثانية قاريا من بين ست وأربعين دولة آسيوية، فيما احتل المرتبة الأولى من أصل أربع عشرة دولة تمثّل منطقة غرب آسيا.

وتناقض هذه المؤشّرات الخطرة المقدّرات البشرية والمادية الضخمة التي يخصصها العراق للجانب الأمني، لكنّها تعكس في الوقت ذاته هشاشة أجهزته الأمنية التي تعاني مشاكل تنظيمية مستحكمة.

ورغم كثرة تلك الأجهزة وأعداد منتسبيها، إلاّ أنها تشكو تداخلا كبيرا بين الأجهزة الرسمية والميليشيات المسلّحة التي تمكّنت أعداد كبيرة منها من الانتساب صوريا للقوات المسلّحة ومشاركتها مواردها المالية، لكن تبعيتها الفعلية لا تزال بأيدي قادتها ومؤسسيها الأصليين.

عمار الحكيم: ندعو إلى إطلاق حملات توعية وطنية تستهدف المدارس والجامعات والمجتمع بأسره

وكثيرا ما تُتداول أخبار عـن تورّط تلـك الميليشيـات في جـرائم كبـرى تشمل تهـريب العملـة وتجـارة المخـدّرات والسلاح وغيـرها، ضمن محـور طـويـل يشمـل إيـران والعـراق وسـوريا ولبنـان.

ويعاني العراق أيضا من وقوعه إلى جوار الساحة السورية التي ازدهرت فيها الجريمة بشكل غير مسبوق بسبب ما شهدته من أوضاع أمنية مضطربة على مدى أكثر من عقد، وأيضا بجوار إيران التي تُعرف بأنها معبر نشط للمخدّرات القادمة من أفغانستان، كما أنها مركز لتهريب النفط والعملة ولتصنيع الحبوب المخدّرة.

وتضمنت صنوف الجريمة المنظمة المنتشرة في العراق، وفقا للمبادرة المذكورة، العديد من الأنواع من ضمنها تجارة المخدرات والأسلحة والسلع المقلدة، إلى جانب الابتزاز والتزوير وغسل الأموال والاتجار بالبشر والدعارة وغيرها.

ولا يخلو انتشار الجرائم الماسة على نحو خاص بالأخلاق والشرف من مفارقة تتمثّل في كون العراق محكوما بشكل رئيسي من قبل أحزاب وقوى دينية تقيم أيديولوجيتها على أسس إسلامية وحتّى طائفية شيعية في الغالب وسنيّة بدرجة أقلّ ويحمل بعض قادتها ورموزها كنية “السيد” أو “الشيخ” في دليل على المكانة الدينية التي يستخدمها هؤلاء في إضفاء المشروعية على مشاركتهم في قيادة البلاد، كما هي الحال على سبيل المثال بالنسبة إلى “السيد” عمار الحكيم زعيم تيار الحكمة و”السيد” مقتدى الصدر قائد التيار الوطني الشيعي و”الشيخ الأمين” قيس الخزعلي زعيم ميليشيا عصائب أهل الحق والعضو البارز في الإطار التنسيقي الشيعي الحاكم حاليا.

وتعي الطبقة الحاكمة في العراق مدى خطورة انتشار جرائم معينة، من بينها ترويج المخدرات واستهلاكها، على البلد وحتّى على تجربة الحكم بحدّ ذاتها.

ودعا الحكيم إلى إطلاق حملات توعية وطنية لمكافحة المخدرات. وقال في بيان أصدره الخميس بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة المخدرات “ندعو الحكومة والجهات المعنيّة في العراق إلى تكثيف جهودها في ملاحقة تجّار ومروّجي المخدرات، ودعم الأجهزة الأمنية في تفكيك الشبكات الإجرامية.”

وأضاف قوله “ندعو إلى إطلاق حملات توعية وطنية تستهدف المدارس والجامعات والمجتمع بأسره، فضلا عن توفير مراكز متخصصة لعلاج وتأهيل المدمنين بما يُمكّنهم من استعادة حياتهم الطبيعية،” مناشدا “العائلات والمجتمع المدني والقيادات الدينية والاجتماعية تحمّل مسؤولياتهم الأخلاقية والوطنية في التصدّي لهذا الخطر ونشر الوعي بين الشباب.”

الجهود الرسمية المبذولة في مواجهة الجريمة بالعراق تصطدم بعائق اعتماد قوى متنفذة في تمويلها الذاتي على عدة أنواع من الجرائم

واستدعى المنحى الخطير الذي اتخذته تجارة المخدّرات واستهلاكها في العراق توظيف السلطة الدينية الواسعة للمرجع الشيعي الأعلى في البلاد علي السيستاني في محاولة الحدّ من تفاقم الظاهرة وتقليل مخاطرها على المجتمع بعد أن بلغت جهود السلطات الأمنية أقصاها في مواجهة هذا الوباء الفتّاك دون النجاح في وقف تقدّمه وانتشاره.

ونشر مكتب السيستاني في وقت سابق ما قال إنها أجوبة على أسئلة وجهت إليه حول موضوع المخدّرات، وتضمنت بعض تلك الإجابات تذكيرا بتحريم الاتجار بالمواد المخدرة واستهلاكها، كما تضمّنت تحذيرا ضمنيا للجهات النافذة المساهمة في نشر تلك المواد بالبلاد من أنّ انخراطها في تلك الأنشطة الممنوعة قانونا والمحرّمة شرعا يجعلها خارجة عن تعاليم الدين وأخلاقيات الطائفة.

ورغم الجهود الأمنية المبذولة في مواجهة الجريمة في العراق بنوعيها الفردي والمنظم والمدعومة سياسيا ودينيا من قبل رموز ذات سلطة أدبية وروحية، فإنّ الجرائم ما فتئت تزداد وتتنّوع مستفيدة من دعم مضاد يتمثّل في انخراط قوى مشاركة في السلطة بحدّ ذاتها، من أحزاب وخصوصا من ميليشيات مسلّحة، في عدّة أنواع من الجرائم وخاصة منها تلك التي تدرّ الأموال على غرار المخدرات وتهريب العملة وإدارة شبكات الدعارة والقمار وبيع الخمر، وذلك سعيا لتغطية المصاريف الباهظة من تسلّح وإنفاق على المجنّدين وتنشيط الحملات الانتخابية وشراء الأصوات وغيرها.

3