شبكات التواصل الاجتماعي أنهت سلطة الأب وأنتجت شبابا متشابها

بعد أن كانت سلطة الوالدين تتحكم في إدارة شخصيات أبنائها معرفيا وسلوكيا في الأمس القريب، بات من المتعذر اليوم أن ينقاد الشاب إلى السلطة ذاتها في زمن سهلَ فيه الانفلات من سلطة الأب وتعددت فيه السلطات وازداد إغراؤها المثير، وتنوعت طرق الإقناع وفنونه، فبعد أن كان الجيل السابق يُربّى وفق مبدأ الترهيب والترغيب، ويُوجه بحسب ضوابط المسموحات الواجبة والممنوعات المحظورة أصبح الآن أمام خيارات لا حصرَ لها؛ يمكن له أن يتصرف بها كيف شاء.
إن مساحة الحرية في قنوات الاتصال وشبكات الإنترنت هذا اليوم لم تقف عند حد معين في عرض أيّ شيء تقريبا، فقد تعددت المواقع وتكاثرت وأخذت تتبارى في ما بينها في تقديم كل ما هو مغر ومحبب من قبل الشباب وغيرهم، فهناك مواقع تخصصت لعرض شتى أنواع الممارسات الجنسية التي يمارسها الرجال مع النساء أو تلك التي تمارس بين الرجال أنفسهم أو بين النساء أنفسهن أو بين الإنسان والحيوان، أو بين الكبار والصغار، وتعدى الأمر إلى عرض أفلام جنسية بين المحارم أو عرض الأفلام المقززة، كل ذلك يعرض بطريقة التصوير الحقيقي أو أفلام الكارتون أو القصص المكتوبة وبشكل يمكن الوصول إليه بطريقة بسيطة جدا، فضلا عن مئات المواقع التي تعرض ما يدعو إلى التشكيك في القيم أو الإلحاد أو النسبية الأخلاقية، ومئات غيرها تعرض ما هو مخيف ومرعب من حوادث ووقائع بما يتعلق بعالم السحر والجن والرعب والحوادث الطبيعية والبشرية المفزعة.
◄ ضعف القانون وسهولة الحصول على السلاح والمخدرات وتلاشي هيبة الدولة وشيوع الفساد في مفاصلها عوامل ساهمت في شيوع حالات الفتوة وانتشار زمر الشقاوات والعصابات الشبابية
إن هذه الممنوعات التي كانت في السابق مسكوتا عنها أصبحت اليوم في حوزة كل شاب تقريبا بمجرد أن يمتلك نقالا أو كومبيوترا عاديا، الأمر الذي جعله أمام عوالم من الحرية لا حد لها ولا رقيب معها على تصرفاته، وبذلك فقد ضعفت سلطة الرقيب، وتوارى الخوف الذي كان يزلزل دواخله عند الاقتراب من المدنس أو المحرم، بل إن شاب اليوم لم يعد يواجه صعوبة رقابية تمنعه من ممارسة أيّ فعل لم يستطع أن يُمارسه سابقا هو أو غيره، فكل الأشياء الآن يمكن أن تمارس بطريقة أو أخرى أو على الأقل أن تشاهد أو تقرأ.
لقد أصبحت أغلب السلوكيات مباحة ومعروضة أمامه ويمكن أن يمارسها بمعزل عن الرقيب، مما أضعف عنده الوازع السلطوي الديني أو الأخلاقي – على السواء – وبذلك أصبحت مسائل الحلال والحرام مسألة ترتبط باختياراته الشخصية فليس هناك سلطة تقررها كما كان في السابق، وأصبح الولوج إلى عوالم المدنس والممنوع غير مخيف ولا يُشعر بتأنيب الضمير طالما أن هناك آلاف المواقع والفيديوهات التي تعرض أفلاما وسلوكيات يمارسها شباب وشابات وأناس آخرون من مختلف الأعمار ومن شتى الشعوب والحضارات دون خوف أو وجل أو تحسب لأيّ وازع، ودون خوف من أيّ رادع، في حين كانت تلك الممارسات بالنسبة إلى الشاب العربي أو المسلم قبل سنوات قليلة مما لا يجوز التطرق له ولو بالإشارة.
إن الأمر الذي حصل في السنوات الأخيرة كان محصلة طبيعية للمتغيرات العالمية وإفرازا استتباعيا لمخاضات ما بعد الحداثة وثورة المابعديات التي تشظت تمثلاتها لتشمل أغلب أوجه الحياة، والتي جعلت المجتمعات التقليدية تعيش حالة من الازدواجية لم تشهد مثيلا لها من قبل. فإذا كانت ما بعد الحداثة قد جاءت بقيم التمرد والشك ورفض السلطات جميعا، فإن ذلك قد وجد – نوعا ما – ترحيبا في مجتمعات الغرب التي تتميز بمجال واسع من الحرية أساسا على خلاف مما عليه الأمر في مجتمعاتنا العربية والمسلمة، فقد بات من المتعذر أن يمر بسهولة وسلام، وهذا ما نجده واضحا في احتدام الصراع الثقافي والديني بين الأجيال، والإرباك الحاصل في النظر إلى القيم القارة.
ونتيجة لما تقدم آل وضع الناس في هذه المجتمعات إلى ما يشبه الصراع بين قيم لمنظومتين أخذت الهوة تتسع بينهما بمرور الأيام، فهناك جيل يؤمن بالتغيير السريع وقيم النسبية والفردية العالية وهو جيل الشباب أو جيل المتأثرين بمفاهيم التطور والتغيير وتمثلات ما بعد الحداثة، وجيل آخر يرى وجوب الحفاظ على الهويات المحلية بحجة أننا لا يمكن أن ننسلخ من جلودنا البتة.
وبما أن وسائل الاتصال أصبحت تتحكم في إدارة دفة الثقافة المعاصرة بشكل كبير بسبب انتشارها الهائل وسطوتها الكبيرة جدا فقد ولّدت بسطوتها تلك ثقافة جديدة ومبتكرة لم تكن تدور في خلد أحد، تتمثل في ردم الهوة بين العالم الافتراضي والواقع، فقد باتت الأحداث تصنع إعلاميا وتروج وتؤثر في المتلقين قبل وقوعها فعليا.
ومن جانب آخر يمكن القول إن من سمات المرحلة المعاصرة التي انعكست على تصرفات الشباب ذلك التقارب السلوكي في المظهر والملبس والحركات نتيجة التقارب المكاني الذي أحدثته وسائل الاتصال، فلم تعد سلوكيات الشاب في أميركا أو اليابان أو أيّ بقعة من بقاع الأرض بخافية على الشاب العربي أو الشاب المسلم، فقد أتاحت غرف الاتصال الإلكترونية وتطبيقات السكايب والماسنجر والفايبر والفيس وتويتر وغيرها فرصا كبيرة للشباب للالتقاء معا والتحاور والتفاهم وجها لوجه وبصورة مباشرة مما أسهم في تقارب الأمزجة وتشابه السلوكيات بينهم.
ومع ما سببه هذا التقارب السلوكي بين الشباب في مختلف الأمكنة من الأرض من شيوع مفاهيم جديدة مثل تقبل الآخر والتسامح، إلا أنه سبب إرباكا كبيرا للأسر والعوائل المحافظة والمعلمين والمدرسين وأساتذة الجامعات والمربين عموما، فقد باتت تلك الجهات في وضع لا تحسد عليه وهي تفقد سيطرتها – شيئا فشيئا – في فرض القيم التي تسعى إلى ترسيخها في نفوس أبنائها.
وعلى الرغم من الفوائد التي لا تعد التي تحصلت نتيجة مشاعية وسائل الاتصال وانتشار أدوات الحصول على المعرفة والمعلومات، فإننا في الوقت نفسه نلاحظ أن هذه المشاعية سببت هزة كبيرة في ضمائر الشعوب لاسيما أنها أتاحت التداخل بين الحضارات والقيم وفتحت الحواجز بين مختلف الأديان والأفكار حتى بات من الصعوبة التماس الحقيقة في تيار أو دين دون غيره.
كل الأفكار أصبحت على خط واحد على السواء بالنسبة إلى الشاب مما تسبب في أحوال كثيرة في عزوفه عن القطع أو الجزم بصحة أيّ فكرة أو مذهب أو بطلانها، لذلك نجد كثيرا من الشباب اليوم يميلون إلى ما يمكن تسميته بالارتباك الثقافي الذي يتمثل في الفوضوية العقيدية أو الإلحاد الفكري أو اللاأدرية الشفافة، أو التطرف الديني الذي يمثل ردة فعل تتخذ من التاريخ والموروث سلاحا في مواجهة كل ما من شأنه أن يتعارض مع ذلك الموروث، مع أننا – في الوقت ذاته – لا نعدم وجود أعداد كبيرة من الشباب يلتزمون الطرف الأوسط من المعادلة الذي يتمثل في الاعتدال.
◄ الممنوعات التي كانت في السابق مسكوتا عنها أصبحت اليوم في حوزة كل شاب تقريبا بمجرد أن يمتلك نقالا أو كومبيوترا عاديا، الأمر الذي جعله أمام عوالم من الحرية لا حد لها
لكن أخطر ما في الأمر ميل الشباب إلى العنف، ويمكن لنا بسهولة ملاحظة ذلك من خلال ازدياد نسب الجريمة بكل أنواعها: الأخلاقية والأسرية والاجتماعية، وزيادة أعداد الشباب المنضمّين إلى المنظمات الإرهابية. ومع أن العنف ليس جديدا ولا هو من مستحدثات العصر فقد عرف الإنسان العنف البدني والجنسي والنفسي منذ أقدم العصور بوصفه تمثلاً من تمثلات القوة وتعبيرًا عن الرغبة والتسلط والإرغام، إلا أن الأسباب المؤدية إلى العنف اليوم قد ازدادت وتنوعت مما أدى إلى ازدياد معدلات العنف عند الشباب.
فبالإضافة إلى الأسباب القديمة برزت إلى الوجود أسباب أخرى تمثلت في انتشار البطالة، أو البطالة المقنعة، وتوسع الفجوة بين الشباب والكبار أو مؤسسات السلطة التقليدية مما جعل الشاب يعيش حالة غربة عن واقعه، فضلا على ضعف الوازع الديني والأخلاقي كما مر في أعلاه. ولا يمكن نسيان دور السياسة في ازدياد نسب معدلات العنف من خلال تغيير مراكز القوى السياسية وتفرد الولايات المتحدة في قيادة العالم وظهور التوجهات المعادية لسياستها متمثلة في سياسات عدد من الدول والمنظمات.
ويمكن أن نضيف إلى الأسباب المتقدمة سببًا آخر يرتبط بالحالة العراقية تحديدًا يتمثل في بروز القبائلية والعشائرية والمناطقية الأمر الذي جر إلى شيوع حالات الفتوة وانتشار زمر الشقاوات والعصابات الشبابية، كل ذلك كان نتيجة ضعف القانون وسهولة الحصول على السلاح والمخدرات وتلاشي هيبة الدولة وشيوع الفساد في مفاصلها، وصعود عدد من الفاسدين إلى مناصب مهمة في الدولة.