شبح الفساد القاتل يطل مجدّدا على العراقيين من ركام حريق الحمدانية

ظاهرة الرشوة تحول دون مراقبة مواصفات المباني ومدى استجابتها لشروط السلامة.
الخميس 2023/09/28
مشهد بات مألوفا لدى العراقيين

الارتفاع اللافت في عدد ضحايا الحرائق وغيرها من الحوادث في العراق قياسا بحوادث مشابهة في بلدان أخرى، لا يعتبر في نظر الكثير من العراقيين محض قضاء وقدر بل هو إحدى النتائج الجانبية لظاهرة الفساد المستشرية في مفاصل الدولة والتي تحدّ من الرقابة على إقامة المنشآت وبعث المشاريع وتكرّس غض الطرف عن مخالفة معايير السلامة ووسائل الأمان.

الحمدانية (العراق)- ترافقت حالة الحزن الشديد الذي عمّ العراق بعد مقتل وجرح العشرات في الحريق الهائل الذي أتى على قاعة أعراس في بلدة الحمدانية بشمال البلاد، مع موجة امتعاض من تواتر مثل تلك الحوادث وفداحة الخسائر البشرية الناجمة عنها.

وأعاد حريق الحمدانية الذي خلّف حوالي مئة قتيل وأكثر من مئة وخمسين جريحا، إلى ذاكرة العراقيين حادثة غرق العبّارة في مياه نهر دجلة بالموصل سنة 2019 مخلّفة نفس العدد من القتلى، وكذلك حريقَي مستشفييْ بغداد والناصرية سنة 2021 واللذين أوديا بحياة أكثر من مئة وأربعين فردا.

وتشترك تلك الحوادث في الارتفاع الصّادم لعدد الضحايا وكذلك في الأسباب التي أدّت إليها والتي تتلخّص عموما في مخالفة معايير إنشاء المباني وإقامة المشاريع واقتناء المعدّات وصيانتها والافتقار إلى وسائل السلامة والأمان.

◙ عراقيون يقارنون بين الفساد والإرهاب معتبرين أن كلتا الظاهرتين لا تختلفان من حيث إزهاق الأرواح وإتلاف الممتلكات
عراقيون يقارنون بين الفساد والإرهاب معتبرين أن كلتا الظاهرتين لا تختلفان من حيث إزهاق الأرواح وإتلاف الممتلكات

وتعزى الظاهرة إلى تراخي السلطات في ممارسة مهامها في رقابة المنشآت ومدى استجابتها للمواصفات سواء منها الخاصّة أو العامّة، بسبب استشراء ظاهرة الرشوة وشراء ذمم الموظفين العموميين.

ووقف عامل مخالفة مواصفات البناء بشكل مباشر وراء العدد الكبير لضحايا حريق الحمدانية، حيث ساعد استخدام صفائح الـ”سندوتش بنل” المغلفة بألواح “الأليكوبوند” رخيصة الثمن والقابلة للاشتعال في عملية بناء صالة الأفراح بالإضافة إلى تغليف السقوف والجدران بستائر قماشية للزينة، في الانتشار السريع للنيران، وذلك في غياب وسائل ومعدّات إطفاء الحريق الضرورية في مثل تلك المباني.

كما حال إغلاق منافذ للطوارئ والاكتفاء بفتح الباب الرئيسي للقاعة دون هروب أكبر عدد ممكن من الحاضرين بالسرعة المطلوبة عندما اندلع الحريق.

وقالت السلطات العراقية إنّ الألعاب النارية ومواد البناء شديدة الاشتعال تقف خلف الحريق الذي أتى على قاعة الأعراس حيث تجمّع المئات من المدعوين للمشاركة في حفل زفاف في بلدة قرقوش المسيحية الواقعة شرق مدينة الموصل، وتعرف كذلك باسم الحمدانية.

وقال المتحدّث باسم الدفاع المدني العراقي العميد جودت عبدالرحمن لوكالة فرانس برس إن من بين الضحايا رجالا ونساء وأطفالا.

وروى الشاب مارتن إدريس الذي يعمل في مطبخ القاعة ونجا من الحادثة أنّه حينما دخل إلى القاعة بعد انطفاء النيران رأى جثث ثلاثة أطفال محترقين، مؤكّدا أن إجراءات السلامة في القاعة لم تكن كافية.

وقال الدفاع المدني العراقي في بيان إنّ استخدام مواد سريعة الاشتعال في بناء الصالة مخالف لتعليمات السلامة المنصوص عليها قانونا.

وأوضح أنّ ما فاقم الأمر هو الانبعاثات الغازية السامة المصاحبة لاحتراق ألواح الأليكوبوند البلاستيكية سريعة الاشتعال، مؤكّدا أنّ “مخارج الطوارئ كانت مغلقة والمتبقي باب واحد هو الباب الرئيسي لدخول وخروج الضيوف”.

ومن بين الجرحى في الحريق الشابة رانيا وعد التي قالت في شهادتها بشأن الحادث إنّ العروسين كانا يرقصان حين طارت الألعاب النارية إلى السقف واشتعلت كلّ القاعة، مضيفة “بعد ذلك لم نعد نرى شيئا، فقط اختنقنا ولم نعد نعرف كيف نخرج”.

وتساءل كثيرون عن غياب دور الأجهزة الحكومية في مراقبة البنايات وتحديد المواد المناسبة لكل مبنى وفق وظيفته، خصوصا وأنه سبق لمادة الأليكوبوند ذاتها أن تسببت في انتشار حريق هائل في سوق باب المعظم ببغداد سنة 2020 مخلفا خسائر مادية فادحة.

وتحسّبا لموجة غضب شعبي سبق للسلطات العراقية أن واجهتها على إثر حوادث مشابهة بادرت الحكومة العراقية بفتح تحقيق وتوقيف عدد من الأشخاص المشتبه في مسؤوليتهم المباشرة عن اندلاع الحريق.

وقالت دائرة الإعلام والعلاقات العامة في وزارة الداخلية إنّه تمّ توقيف تسعة أشخاص من العاملين في القاعة كإجراء احترازي وإصدار مذكرات قبض بحقّ أربعة آخرين هم المالكون لقاعة الأفراح المحترقة.

ومن جهته قال رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في بيان إنّه طلب من وزيري الداخلية والصحة استنفار كلّ الجهود لإغاثة المتضرّرين جرّاء الحادث المؤسف. كما أمر بـ”تشكيل لجنة تحقيقية تباشر على الفور في التحقيق وكشف ملابسات الحادث للوقوف على الأسباب وكشف نواحي التقصير”، وفق بيان صادر عن مكتبه.

وغالبا ما لا يتمّ الالتزام بتعليمات السلامة في العراق لاسيّما في قطاعي البناء والنقل، كما أنّ البنى التحتية في هذا البلد متداعية نتيجة عقود من النزاعات ما يؤدّي مرارا إلى اندلاع حرائق وكوارث مميتة أخرى.

ولا ينفصل كل ذلك، بحسب المراقبين، عن ظاهرة الفساد المستشرية في العراق التي كثيرا ما يقارن العراقيون بينها وبين الإرهاب ويقولون إن كلتا الظاهرتين تؤدّيان إلى نفس النتائج وهي قتل الأبرياء وجرحهم بأعداد كبيرة وإتلاف ممتلكاتهم وموارد رزقهم، إلا أنّ الفساد يكون أخطر في كثير من الأحيان لأنّه يعطّل تنمية البلد ويحرم مواطنيه من ثرواته الضخمة.

بل إن الفساد نفسه كثيرا ما يتحوّل إلى عامل لعدم الاستقرار وخادم للإرهاب بشكل مباشر عندما يطال الأجهزة الأمنية وهو أمر متحقق بالفعل لجهة أن الانتساب إلى تلك الأجهزة ليس وفق معيار القدرة والكفاءة ولكن بالمحسوبية ودفع الرشاوى، وأيضا لجهة الفساد في صفقات شراء المعدّات مثلما حدث في وقت سابق عندما تم اقتناء أجهزة لكشف المتفجّرات تبيّن لاحقا أنها لا تعمل.

 

اقرأ أيضا:

        • السوداني وفرصة الحظ السعيد قبل أن يأتي الطوفان

3