شباب مصراتة والنافخون في كور المحرقة

مثلت مصراتة إلى وقت قريب العاصمة الاقتصادية للبلاد، وعنوانا للعمل والإبداع، لكن الدفع بها إلى أن تكون رأس الحربة لفائدة مشروع إخواني منبوذ، ومشروع جهوي انعزالي، جعلها معزولة عن جغرافيا البلاد الترابية والثقافية والاجتماعية.
الثلاثاء 2020/04/14
حرب بلا أفق

لا يكاد يمر يوم دون نصب سرادق العزاء في مدينة مصراتة الليبية، وكثيرا ما يلفظ العشرات أنفاسهم خلال أسبوع واحد، أغلبهم من الشباب الذي لا يزال في مقتبل العمر، وحتى من المراهقين، بينما يفقد آخرون أعضاء من أجسادهم، ويتحولون إلى مُقعدين عاجزين في زوايا بيوت حزينة.

ومع ذلك لا تكفُّ أبواق المدينة عن تحريض من تبقى من الشباب على الخروج من منازلهم للالتحاق بجبهات القتال، سواء باسم الدين أو الوطنية أو الثورية، فيندفع المغرر بهم لحمل السلاح، مدفوعين بشعارات واهية ليعودوا جثثا هامدة، تسيل لها دموع أم ثكلى وأب مكلوم، أو أجسادا خربها الرصاص لتُرمى في مستشفيات الداخل والخارج.

منذ العام 2011 ومصراتة ضحية لرموزها من العنصريين الجهويين، أو الإخوان المتأسلمين، أو رجال الأعمال الفاسدين، ولكل فئة من هؤلاء حساباتها ومصالحها التي يدفع ثمنها البسطاء والفقراء والحالمون، والراكضون خلف أوهام تتراوح بين خلافة مزعومة ينظّر لها الإخوان وأتباع رجب طيب أردوغان، وسيطرة مطلقة على مقدرات البلاد يطمح إليها جهويون لا يرون مدينة أخرى قادرة على إنجاب من يحكم ليبيا سوى مدينتهم، ورجال أعمال لم يتركوا مرحلة من تاريخ البلاد إلا استغلوها لخدمة مصالحهم، فكانوا المستفيدين من نظام معمر القذافي، ومن حرب الإطاحة به، ومن الصراعات التي تلتها، مستفيدين من مركزية القرار، ثم من انهيار الدولة.

تعتبر مصراتة منطلق أغلب إسلاميي ليبيا من الإخوان والقاعدة، ومركز الميليشيات، وبوابة التدخل الخارجي في ليبيا، ومنها ينحدر أبرز الحاكمين في مؤسسات الدولة، والمتصرفين في القرار السياسي والمالي والاقتصادي، والمحرضين على استمرار الحرب إلى ما لا نهاية، والوالغين في دماء الليبيين، حتى تحولت إلى قوة احتلال داخلي، مدعومة بالدخيلين التركي والقطري، وباللوبيات الإقليمية والدولية ذات المصالح المالية البحتة.

خلال تسع سنوات، شنت مصراتة حروبا على كل المدن والقبائل الليبية تقريبا، كونها المدينة التي انتصرت على النظام السابق، فلم يسلم من أذى ميليشياتها حتى أقرب الحلفاء إليها، ودخلت في صراع مع طرابلس وأحيائها، وخاضت حروب قسورة وفجر ليبيا، ودمرت تاورغاء، وغزت بني وليد، وخربت سرت، وهاجمت ورشفانة، واستبدت بالجنوب، ونشرت الإرهاب في الشرق، ولا تزال تسير على نفس المنهج، بروح المكابرة والاعتداد بالنفس والاعتقاد بأنها مدينة الله المختارة، والأجدر من غيرها بالهيمنة على البلاد والعباد، ووضع يدها على النفط والغاز والمعادن والصناعات والمصارف والاعتمادات.

تحولت مصراتة إلى ولاية تركية على الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، وبات إعلام أردوغان ينعتها بقلعة أتراك ليبيا، ولا يخفي عدد من أبنائها أن أنقرة أو إسطنبول أقرب إليهم من بنغازي وسبها وحتى من طرابلس، وأن الجذور التركية أهم بالنسبة إليهم من الانتماء العربي، وبالطبع، لا يمكن التعميم، فمن بين أهل مصراتة من يرفضون ذلك بشدة، ولكن سلاح الميليشيات يجعلهم يكتفون بالصمت.

Thumbnail

يعتبر مفتي الإرهاب الصادق الغرياني أن كل قتيل من أبناء المدينة هو وسام جديد لها، الحقيقة أن لا الغرياني ولا أيا من النافخين في كور المحرقة يرسل أبناءه إلى جبهات القتال، هؤلاء يستفيدون فقط من خراج الحرب ليرفعوا من حجم حساباتهم في المصارف الخارجية، وليساوموا على مصالحهم التي لا تتحقق إلا بالمزيد من الدماء، ولدى أغلبهم مساكن واستثمارات في دول عدة، وجنسيات مزدوجة، وجوازات سفر تفتح لهم أبواب العالم عندما تضيق بهم أرض ليبيا.

ما الذي يجعل أبناء مصراتة يضحون بأرواحهم ودمائهم اليوم في محاولتهم التصدي لتقدم الجيش الوطني لبسط نفوذ الدولة؟

الجواب أن خليطا غريبا يتم استعماله لإقناعهم بذلك، يتشكل من شعارات جهادية للمهووسين دينيا، مع شعارات ثورية تحت يافطة الدفاع عن المدينة المنتصرة في 17 فبراير 2011، وشعارات عنصرية تحت يافطة الانتماء الحضري ضد أغلب سكان البلاد من البدو الذين حكموا 42 عاما، أو ضد المنطقة الشرقية التي حكمت من خلال النظام الملكي، مع شعار “أنتم الأعلون” بدعم الأتراك والقطريين، وضرورة أن يحكموا ليبيا أو أن يحرقوها، واعتمادات مالية مجزية تصرف لأمراء الحرب، ولا يذهب منها للمقاتلين إلا الفتات.

مثلت مصراتة إلى وقت قريب العاصمة الاقتصادية والقلعة الصناعية للبلاد، وعنوانا للعمل والإبداع وتجميع الليبيين حول نموذجها في الاجتهاد، لكن الدفع بها إلى أن تكون رأس الحربة لفائدة مشروع إخواني منبوذ، ومشروع جهوي انعزالي، جعلها معزولة عن جغرافيا البلاد الترابية والثقافية والاجتماعية، ووضع كل صوت مخالف لأصوات دعاة الحرب، في خانة المرفوض والملفوظ، فلا مجال للعقل طالما أن من يعتقد أن أصحابه هم من يعادون منطقته، ولكن إلى متى؟

على شباب مصراتة أن ينتبه إلى أنه يخوض حربا بلا أفق، وأن مدينته باقية في ليبيا ولن تنتقل إلى تركيا، وأن من يدفعون به إلى حتفه إنما يجعلون منه جسرا لتحقيق أهدافهم وخدمة مصالحهم، وأن الجيش الذي يواجهونه هو جيش ليبيا، وعناصره من أبناء الشعب الليبي، وهم مصرون على كسب المعركة مهما طال المدى، وإن حقن دماء أبناء المدينة لأفضل وأجدى لبلادهم، ليكونوا أحياء لا موتى، وسواعد بناء لا معاول هدم..

8