شباب لبنان يعيشون هاجس التغيير دون التخلي عن زعيم الطائفة

يعيش الجيل الجديد في لبنان أزمات مستعصية في ظل ارتباط الانتماء الطائفي بالسياسي، ورغم حجم الاستياء والنقمة بين الشباب على نظام المحاصصة الطائفي وما أورثه من مشكلات اجتماعية واقتصادية، إلا أنهم يبدون تمسكا بزعيم الطائفة ويستمرون في السير على خطاه، مستسلمين لفكرة عدم الثقة بالآخر.
“حطمها” فكرة غريبة ومميّزة لمشروع بسيط استقطب الشباب في لبنان قبل أشهر، بغرفة عازلة للصوت تبلغ مساحتها 45 مترا ضمن مستودع في منطقة بعيدة عن السكان وزحام الشوارع والسيارات، تحوي بضعة قطع من الأثاث مخصصة للإجهاز عليها وتحطيمها، ثم يخرج الشاب متحررا من التوتر والقلق والضغوط النفسية والحياتية.
الفكرة بسيطة وهي استثمار رابح لأصحاب المشروع الذين يدركون جيدا ضغوط الحياة والواقع المتردي والمستقبل المفتوح على المجهول أمام الشباب في لبنان، فبمجرد سؤال أي شاب عن رأيه في الوضع السياسي للبلاد، ينتهز الفرصة لإطلاق سيل من الشتائم على الزعماء السياسيين الطائفيين محملا إياهم مسؤولية الفساد وانعدام الأفق وإغلاق الطريق على الجيل الجديد ليصنع حياة أفضل.
تحديات وتناقض
تعيش أغالبية من الشباب اللبناني حالة تناقض، فرغم نقمتهم على السياسيين وزعماء الطوائف إلا أنهم ينساقون للاصطفاف السياسي ويتبعون في الكثير من الأحيان زعيم الطائفة ويبدو هذا واضحا خلال الحملات الانتخابية التي ترفرف فيها رايات الأحزاب وصور الزعماء بأيدي جيل يافع متحمس لانتمائه السياسي والمذهبي.
ويواجه الشباب اللبناني تحديات كبيرة تعليمية واجتماعية وصحية واندماجا اجتماعيا وأزمات تتعلّق بالمشاركة السياسيّة، وهو موزّع بحسب انتماءاته السياسية، إلا أن معظم الشباب لم يختاروا انتماءهم وإنما فرضت عليهم الطائفة أو المنطقة أو العائلة هذا الانتماء، وقلّةٌ قليلة خرجت عن هذا المسار واختارت اتجاها غير إجباري لذلك كلّ شيء في البلد يخضع للتوازنات السياسيّة من انتخاب رئيس للجمهوريّة وحتّى حلّ أزمة النفايات والماء والكهرباء والوقود.
وفي دراسة لمعهد ليفانت، ذكر أن الشباب في لبنان يرددون آراء قادتهم السياسيين، يتبنون حتى أخطائهم ويهاجمون كل الخصوم الآخرين المتبدلين بحكم المصالح السياسية والانتخابية، فالانتخابات مواسم للمنفعة الشخصية والحزبية، الفوز ليس للأجدر بل للذي يستطيع كسب الأصوات ولو كان ذلك ضمن عملية بيع وشراء.
الشباب في لبنان يرددون آراء قادتهم السياسيين، يتبنون حتى أخطائهم ويهاجمون كل الخصوم الآخرين المتبدلين بحكم المصالح السياسية والانتخابية
ولقد شهدت الانتخابات البلدية الأخيرة الكثير من الخروقات وشراء الأصوات ومحاولات الهيمنة على المجتمع الناخب بطرق مختلفة ولم يقتصر هذا الأمر على مدن محددة بل يشمل كل المدن من الشمال حتّى الجنوب. وهناك هوة ثقافية وفكرية بين الشباب في مناطق متجاورة في لبنان، يعززها الانقسام الطائفي والمذهبي والوضع المادّي المتردّي عموما.
وتستقطب الصحافة والإعلام الكثير من الشباب كلّ بحسب توجهه كل الحريات مفتوحة، وتستطيع أي جهة الحشد لأيّ أهداف تريدها، كلّ فرص المجتمع المدني مفتوحة لكنّ الواقع السياسي محكوم بتركيبة طائفية تعتمد المحاصصة ولا يبدو في الأفق أنّ الجيل الجديد من اللبنانيين في طريقه لإنهائها.
وحاول البعض من الشباب اللبناني استثمار موجة الثورات العربية في 2011 فدعا لمظاهرات وتجمعات لإسقاط نظام المحاصصة الطائفي، لكن التحالفات في لبنان أفشلت هذه التحركات التي سرعان ما عادت للظهور من خلال حملتي “طلعت ريحتكن” و”بدنا نحاسب”، إلا أنّ كلّ هامش الحريات المتوفر في هذا البلد يبقى إعلاميّا فقط وبحاجة لوقت كبير ربمّا ليحقق تقدما ملموسا في عمليات التغيير وبناء مجتمع مسؤول، وعاد الاصطفاف السياسي إلى نقطة البداية.
الانتماء الطائفي
كما أجرى مركز “رشاد” للحوكمة الثقافيّة في مؤسسة أديان، دراسة ميدانية حول “تأثير الطائفيّة على الخيار الانتخابي للشباب في لبنان” ضمن مشروع “مواطنون مختلفون لوطن واحد” شملت عينة من 1000 شاب وشابة مارسوا حقهم الانتخابي للمرة الأولى في 2017. وكشفت الدراسة أن الأكثرية الساحقة من المستطلَعين اللبنانيين طائفيون، ولكن نصفهم فقط اعتبر أن انتماءه الطائفي يؤثر على خياراته السياسية، ما يعني أنهم يتّهمون الآخر بالطائفيّة في حين يحاولون إبعاد هذه الصفة عن أنفسهم.
ورفض 70.1 بالمئة من المستطلعين قانونا يصوت على أساسه الناخب لنائب من طائفته، وقال 35.3 إنهم يعطون صوتهم للائحة معينة لدعم حزب سياسي بينما 57.9 بالمئة يعطون صوتهم التفضيلي للمرشح على أساس الكفاءة، ورأى 46.1 بالمئة منهم أن النائب من طائفة الناخب يمثله أفضل من نائب ينتمي إلى طائفة أخرى، واعتبر ما نسبته 73.7 بالمئة أن اللبنانيين طائفيون بشكل عام.
وبدا الانطباع العام لدى الشباب هو نفسه لدى الكثير من اللبنانيين، ارتباط العمل الحزبي بالواقع الطائفي موجود بدرجة كبيرة، الأمر الذي يطرح سؤالا مهما: كيف يأمل هؤلاء الشباب بالتغيير والثورة على الواقع السياسي الطائفي الذي أورث هذا الكم الهائل من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية، بينما يلاحقهم هاجس الانحياز للطائفة وعدم الإيمان بمفهوم المواطنة لدى اللبناني بشكل عام؟
وتشير الدلائل إلى أن المشكلات المتراكمة لم تتغير سوى في شكلها الظاهري، فالأجيال التي ولدت في الحرب وعاشت تفاصيل التصفية على الهوية والاختطاف والقتل وبيروت الشرقية والغربية، تعيش اليوم حربا غير مرئية لكنّها حرب مختلفة ليست بالرصاص وضربات المدافع، هي حرب لأجل البقاء والاستمرار، والحصول على فرص العمل والمسكن والمعيشة اليوميّة من طعام وشراب والوصول لخدمات تعليميّة.
والبقاء في هذه الظروف السيّئة أو الهجرة خياران قاسيان أمام الشباب في لبنان والذين يشكلون نسبة 28 بالمئة من مجموع السكان كما تعد البطالة المشكلة الأبرز التي يعاني منها الشباب فتشكل نسبة الشباب من العاطلين عن العمل 66 بالمئة.
وأزمة السكن من أكبر الأزمات التي يعاني منها اللبنانيّون في ظل الارتفاع المتسارع لأسعار الشقق والعقارات، معظم الشباب اللبناني صار حلمه شقّة في ضواحي المدن فقط فالأسعار الخيالية للعقارات داخل المدن جعلت التفكير فيها أمرا بعيدا.
وحلم السكن ليس أقل صعوبة من إيجاد العمل للشباب، المرتبط أيضا بالفساد والمحسوبية، إذ تجري على لسان الشباب الخريجين عبارة واحدة “الطريقة الأمثل لإيجاد عمل جيد هي الواسطة، وإذا كنت لا تعرف أحدا مهما، فإن مستقبلك ليس في لبنان”.
وأصدرت منظّمة العمل الدوليّة تقريرا حول التحدّيات لعمالة الشباب وكشفت أنّ نسبة البطالة لدى الإناث تخطّت الذكور في لبنان، إذ بلغت هذه النسبة 41.6 بالمئة للفتيات اللواتي تتراوح أعمارهنّ بين 15 و19 سنة، مقارنةً بنسبة 18.3 بالمئة لدى الذكور من الفئة العمريّة نفسها.
كذلك وصل معدّل البطالة لدى الإناث البالغة أعمارهنّ 20-24 سنة إلى 24.2 بالمئة ولدى الإناث البالغة أعمارهنّ 25-29 سنة إلى 10.5 بالمئة، في مقابل معدّلَي 12.9 بالمئة و6.2 بالمئة بالتتالي لدى الذكور من فئات العمر نفسها.
وقد كانت هذه الهوّة أعمق عند دراسة معدّلات الشباب الذين لا يعملون والذين ليسوا في طور التعلّم أو التدريب، إذ بلغ هذا المعدّل 7.4 بالمئة لدى الإناث ذات الفئة العمريّة 15-19 سنة، و26.7 بالمئة لدى الإناث ذات الفئة العمريّة 20-24 سنة، و40.6 بالمئة لدى الإناث ذات الفئة العمريّة 25-29 سنة، متخطّيةً بشكل ملحوظ معدّلات الذكور، والبالغة 4.3 بالمئة و7.3 بالمئة و6.8 بالمئة على صعيد القطاعات الاقتصاديّة.
ويوضح هذا التقرير أنّ الغالبيّة الساحقة من الشباب الذين لديهم وظيفة، وبالتحديد 91.2 بالمئة من الإناث و81.1 بالمئة من الذكور، يعملون في قطاع الخدمات، يتبعه، وبفارق كبير، قطاع الصناعة، 6.8 بالمئة من الإناث و16.5 بالمئة من الذكور، ثم قطاع الزراعة 2.0 بالمئة من الإناث و2.5 بالمئة من الذكور.
استثناءات قليلة
استطاعت فئة صغيرة من الشباب في لبنان إيجاد مساحة للإبداع والاستثمار والانطلاق بمشاريعهم الخاصة بدعم من مؤسسات أو منظمات وهيئات دولية، مثل شركة هيرباتكيا، وهي شركة مهتمة بتطوير الأفكار الإبداعية تسعى خلالها إلى دعم المزارعين في لبنان، يديرها ناشط اقتصادي شاب يدعى ألكساندر نامي.
وتحدث نامي على هامش المؤتمر المصرفي العربي الذي عقد مؤخرا في بيروت، عن التعاونية الزراعية التي أنشأها بهدف تقديم الاستشارات للمزارعين وكذلك مساعدتهم على تسويق منتجاتهم، “لأن التسويق مشكلة كبيرة تواجه المزارعين في لبنان”. وعن الفكرة وراء إنشاء شركته، قال نامي إن عملية خلق الأفكار الإبداعية ظلت سمة مميزة له منذ أن كان صغيرا، مشيرا إلى أنه وعند لقائه بالمزارعين يستلهم أفكارهم البسيطة ويقوم بتطويرها “ويخرج منها مادة جديدة، لأن المستهلك دائما ما يبحث عن الجديد”.
وأضاف “قمت بخلق أفكار كثيرة. بعضها كان ناجحا أما البعض الآخر فلم يحظ بالنجاح. وهذه هي طبيعة كل شيء. فليس بالضرورة أن تنجح كل فكرة تنتجها”.
وأعرب نامي عن اعتقاده بأن المشاريع الصغيرة أساسية في التقليل من نسب البطالة في لبنان والعالم العربي. وأكد “أنا لست مع الشركات الضخمة التي تأتي بالمليارات من الدولارات وتنشأ مشروعات ضخمة وتوظف الناس. نحن بحاجة إلى المشروعات الصغيرة والمتوسطة لأنها هي الكفيلة بإحداث نهضة في اقتصاداتنا”.
وبدوره، نصح رائد الأعمال خالد ديراني الشباب بالاتجاه نحو المشاريع التي تدعم وتحافظ على البيئة. ويعمل ديراني مستشارا مع منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (يونيدو) إضافة إلى إجراء استشارات خاصة في لبنان. ويعمل أيضا في جمعية تسمى “إفادة” معنية بدعم الشباب ورواد الأعمال الصغار بهدف الوصول إلى التمويل المناسب الذي يمكنهم من تكملة مشروعاتهم.
وقال على هامش المؤتمر إن “البنوك في لبنان ظلت تلعب دورا أساسيا في تمكين الشباب. اليوم الشباب بحاجة إلى التمويل من أجل البدء في مشروعاتهم وتحقيق أحلامهم”.
وأضاف أن “القطاع العام في بعض الأماكن لا يركز على الشباب بشكل خاص”، مشددا على ضرورة أن يسعى القطاع العام إلى خلق شراكة مع القطاع الخاص، حتى يتمكنا من خلق برامج مخصصة للشباب تمكنهم من الحصول على التمويل والتدريب المناسبين لبدء مشروعات خاصة. وقال إن هذه المشروعات لا يمكن إنجازها دون التعاون بين القطاعين العام والخاص.
واشتكى خالد من أن القروض التي تمنح للشباب بواسطة القطاع الخاص لا تتلاءم مع طموحاتهم، لأنها مرتفعة الفوائد لا يستطيع الشباب إيفاءها.