شباب تونس يبتكرون طرقا جديدة للاحتجاج يأسا من المظاهرات

تهديد الشباب بالهجرة الجماعية بسبب توقف نشاط فريق رياضي تحرك رمزي ضد الإهمال الحكومي.
الأحد 2020/11/01
المظاهرات التقليدية لم تعد مجدية

لم تعد المطالب والرسائل الاحتجاجية للشباب تلقى آذانا صاغية عبر المظاهرات والاعتصامات التقليدية لكثرتها، فقرر شباب إحدى المدن التونسية ابتكار طريقة جديدة بفتح باب المشاركة للهجرة الجماعية لكامل أهالي المنطقة، للتعبير عن يأسهم وإهمال الحكومة لأوضاعهم المتردية.

تونس - سئم شباب منطقة الشابة التونسية من اللجوء إلى الاحتجاج والتظاهرات بعد أن فشلت في تحقيق مطالبهم وإيصال أصواتهم للحكومة، فقرروا ابتكار طريقة جديدة تلفت الانتباه وتسلط الضوء على مطالبهم الاحتجاجية.

لم تلق المظاهرات والإضراب العام الذي نفذه شباب منطقة الشابة بسبب توقيف نشاط فريقهم الرياضي، اهتماما كبيرا لدى السلطات ووسائل الإعلام بل مرّا كخبر عادي في وسائل الإعلام المحلية، غير أن تهديد نحو ألفي شاب من سكان منطقة الشابة بهجرة جماعية نحو السواحل الإيطالية أثار ضجة واهتماما واسعا داخل تونس وخارجها، وتناقلت وسائل الإعلام الدولية قيام أنصار النادي بتشكيل تنسيقية لدعم فريقهم وتنظيم هجرة جماعية، بعد قرار الاتحاد التونسي لكرة القدم تعليق نشاط فريقهم الكروي.

قرار غير منصف

ولا يبدو السبب مقنعا للكثيرين إذ بدا وكأنه طرفة أو حكاية ساخرة، لكن أهالي المنطقة اعتبروا الأمر استهانة بهم وحرمانا من الوسيلة الوحيدة للترفيه في ظل التهميش الذي تعاني منه منطقتهم.

وجاء ذلك إثر نشوب خلاف حاد بين رئيس الاتحاد التونسي لكرة القدم وديع الجريء ورئيس نادي “هلال الشابة” توفيق المكشر منذ أشهر بعد أن نشر الأخير تدوينة على موقع فيسبوك يدعو فيها الاتحاد إلى الشفافية في التصرف في الأموال ويطالب بتدقيق إداري، فقرر الاتحاد في 17 أكتوبر الجاري تعليق نشاط جمعية هلال الشابة ومنعه من المشاركة في المسابقات التي ينظمها لموسم 2020 – 2021.

فرد الأهالي في مدينة الشابة الساحلية جنوب شرق تونس على القرار “غير المنصف” بإغلاق العديد من المتاجر والمحلات والإدارات الرسمية أبوابها كما عمد متظاهرون إلى إغلاق المدخل الرئيسي للمدينة وإحراق إطارات، وتظاهر آخرون حاملين رايات الفريق باللونين الأبيض والأخضر، إلا أن ذلك لم يكن له أي أثر يذكر في إعادة الفريق للعب.

وقامت مجموعة من الشباب بنصب خيمة في ميناء الشابة لتسجيل أسماء الذين يريدون المشاركة في عملية هجرة جماعية نحو السواحل الإيطالية.

فاطمة المسدي:  هذه الحركة تعتبر سابقة في تاريخ الاحتجاجات في تونس ومن غير المعقول أن تصل الأزمة إلى هذا الحد
فاطمة المسدي:  هذه الحركة تعتبر سابقة في تاريخ الاحتجاجات في تونس ومن غير المعقول أن تصل الأزمة إلى هذا الحد

وقال عضو تنسيقية دعم “الهلال الشابي” محمد علي عباس “أمام هذا الصمت من قبل السلطات على هذه المظلمة، قرّر سكان المنطقة من مختلف الأعمار مغادرة البلاد نحو إيطاليا”.

وأضاف عباس أن أكثر من 200 قارب ستخصص لهذا الأمر “بعد القرار الجديّ من قبل الأهالي الذين يشعرون بأنهم مهمشون من قبل السلطة”.

وقال رئيس نادي “الهلال الشابي”، توفيق المكشر، إن النادي يعتبر وسيلة الترفيه الوحيدة بالنسبة للأطفال والشباب وهذا لم يمنع الاتحاد من اتخاذ قراره “غير العادل”.

وتحولت هذه الحركة إلى حديث مواقع التواصل الاجتماعي في تونس، وانقسمت الآراء بين من يعتبرها حركة عفوية لمجموعة من الشباب الغاضبين، ومن يرى فيها تحديا للسلطات الأمنية باعتبار أن الهجرة السرية يعاقب عليها القانون. وتصل عقوبة الهجرة غير النظامية في القانون التونسي إلى السجن بين سنة وسنتين.

وعبرت النائبة السابقة في البرلمان التونسي، فاطمة المسدي، على صفحتها في فيسبوك عن استغرابها من هذه الحركة التي تعتبر سابقة في تاريخ الاحتجاجات في تونس خلال السنوات الماضية، وأنه من غير المعقول أن تصل الأزمة في البلاد إلى هذا الحد.

ويرى متابعون أن ما قام به شباب مدينة الشابة يشير إلى فقدانهم الأمل بجدوى الحلول الأخرى والتحركات، والمسألة محاولة للفت الانتباه لمعاناتهم ومشاكلهم، حيث شعروا أن الكأس فاضت بهم بعد حرمانهم من أبسط وسائل الترفيه في منطقة تعاني الإهمال الحكومي وجملة من المشكلات والأزمات لا أحد يلتفت لها.

واعتبر البعض أنها محاولة لإحراج الحكومة والضغط عليها في مسألة الهجرة نظرا لأن قضية الهجرة مثلت محور أزمة بين تونس وإيطاليا في الأشهر الأخيرة، مما جعل الرئيس التونسي قيس سعيد يلتقي في ثلاث مناسبات مع وزيرة الداخلية الإيطالية لوتشيانا لامورجيزي. وشدد سعيد على أن “الحلول الأمنية وحدها ليست كفيلة بالقضاء على الهجرة غير النظامية”.

وكانت إيطاليا قد هددت بإيقاف معونات مالية لتونس في حال تراخي الدولة في حفظ الحدود والحد من الهجرة البحرية إلى أراضيها، ولكن وزير الشؤون الخارجية عثمان الجرندي أكد أن تونس حريصة على الإيفاء بالتزاماتها وتطبيق الاتفاقيات في ملف المهاجرين السريين، وأنها لا تخضع لأي ضغوط بهذا الخصوص.

وكشف التقرير السنوي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية حول الهجرة للعام الماضي أن ظاهرة الهجرة السرية توسعت في العقد الأخير لتشمل مختلف الفئات العمرية كما تحوّلت تدريجيا إلى مشروع عائلي.

تراجع دور العائلة

قرار جماعي
قرار جماعي

أوضح التقرير أنه أمام تراجع الدور العائلي والحالة الاقتصادية الهشة التي تعيشها والتي ازدادت حدتها وأمام بعض حالات التفكك الأسري ونظرا لضبابية مستقبل أبنائها في موطن النشأة انخرطت العائلة في مشروع الهجرة، ويعود هذا النوع من الهجرة إما لأسباب اقتصادية واجتماعية وإما لأسباب تتعلق بالتفكك الأسري، وبالتالي هجرة القاصرين مصحوبين بمرافقة.

ويبدو أن الشباب باتوا محبطين من جدوى الاحتجاجات الشبابية، وعادت حالة ما قبل الثورات العربية مع تدهور الأوضاع خصوصا في بلد مثل تونس يجمع فيها المواطنون على أن أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية كانت أفضل قبل الثورة رغم الحريات التي حصلوا عليها.

وانقلبت صورة الاحتجاجات التي كان عمودها الفقري من الشباب، بأنها سبيل لنهضة البلاد وتحسين الأوضاع وتحقيق العدالة الاجتماعية، ولم يعودوا يعولون عليها في إحداث التغيير، بل على العكس باتت معيارا للفوضى وزيادة الأمور سوءا، فعاد حلم الخلاص بالهجرة يراود غالبية الشباب.

ووفق إحصائيات وزارة الداخلية التونسية، حاول 8020 شخصا الهجرة بصورة غير قانونية من تونس، منذ مطلع العام وحتى منتصف سبتمبر.

ولا يكاد يمر يوم أو أسبوع على الأكثر دون إعلان السلطات التونسية عن إحباط محاولات للهجرة غير الشرعية، وأغلبها بشكل جماعي.

وأوضح المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهي منظمة غير حكومية متخصصة في ملف الهجرة غير القانونية، أن عدد الوافدين إلى السواحل الإيطالية منذ مطلع العام الحالي سجل رقما غير مسبوق منذ العام 2011، مع بدء تزايد أعداد القصر بين المهاجرين. وتقدر المنظمة أنه في العام 2011 تجاوز عدد الواصلين 22 ألفا.

رمضان بن عمر:  العائلة في تونس فقدت كافة المبررات لإثناء أبنائها والعدول عن فكرة الهجرة وإقناعهم بالبقاء
رمضان بن عمر:  العائلة في تونس فقدت كافة المبررات لإثناء أبنائها والعدول عن فكرة الهجرة وإقناعهم بالبقاء

انعدام الجدوى

قال المكلف بالإعلام رمضان بن عمر في المنتدى، إن العائلة التونسية كانت في السابق “عنصرا مقاوما” لهجرة أبنائها وتحاول صد هذه الخطط وإفشالها، ولكن “شيئا فشيئا أصبحت العائلة محبطة ومثقلة بالأعباء وبالوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب، وأصبحت لا ترى مانعا في تمويل مشروع الهجرة لأبنائها وبدأت تشارك في عملية الهجرة”.

وتابع “فقدت العائلة في تونس كافة المبررات لإثناء أبنائها والعدول عن فكرة الهجرة وإقناعهم بالبقاء بسبب اتساع الأزمة وغياب أي آفاق واضحة، ما نلاحظه اليوم أن أفراد العائلة باتت لديهم دوافع مشتركة للهجرة الجماعية”.

وانطلقت غالبية محاولات الهجرة غير النظامية أساسا من 3 محافظات ساحلية تعيش تفاقما في انتشار وباء كورونا، وهي محافظات سوسة والمنستير ونابل، في وقت كانت محافظة صفاقس تمثّل نقطة العبور الرئيسية لمنظّمي الهجرة غير الشرعية.

وأوضح بن عمر أن ظاهرة الهجرة راسخة من قبل بسبب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ولكن وباء كورونا عمق من حالة البؤس، وأشار إلى أن كثيرين خسروا وظائفهم كما أن الآلاف من العمال التونسيين عادوا من ليبيا، ولم تكن الإجراءات الحكومية للحد من التدهور الاجتماعي كافية لاحتواء حالة الغضب والسخط.

ولفت بن عمر إلى أن “الأزمة السياسية في البلاد أيضا أشاعت حالة من الإحباط وغذت الرغبة في الهجرة لدى الكثيرين”.

ويرى المحللون أن الجيل الجديد من الشباب لديه وعي سابق على الأجيال التي قبله وهذا الوعي آخذ في التنامي والتطوّر، لذلك يشعر هذا الجيل بالقلق الشديد وحالة “اللايقين” تجاه مستقبله، وقد تجاوز الثقافة النفسية والسياسية التي انبثقت من طبيعة العمل السياسي في العقود الماضية، ولديه اليوم استراتيجيات وتكتيكات وخطاب ولغة مختلفة تنزع نحو التغيير والخروج من قفص الخوف من الاشتباك مع الواقع السياسي، لكن المشكلة اليوم أصبحت بشعوره بعدم جدوى التحرك لتغيير الواقع السياسي.

ففي تونس لا يثق الشباب بالطبقة السياسية وفقدوا الأمل حتى من تغييرها ما جعلهم يائسين من تحسن الأوضاع ويفكرون بالهجرة بشتى الطرق شرعية كانت عبر الدراسة والعمل أو هجرة غير شرعية رغم ما تحمله من مخاطر.

وقررت السلطات التونسية دراسة الظاهرة بعمق، بعد أن أصبحت مشكلة تزداد تعقيدا وتهديدا للمجتمع التونسي مع حالة الإحباط واليأس التي تعتري الشباب، خصوصا مع تداعيات فايروس كورونا التي شكلت أزمة كبيرة فاقمت من المشاكل.

أين المستقبل؟
أين المستقبل؟

وأعلن المعهد الوطني للإحصاء (حكومي) في تونس عن انطلاق المسح الوطني للهجرة الدولية، هو الأول من نوعه بالبلاد.

وأكدت نادية الطويري المشرفة على المسح في مؤتمر صحافي، أن “هذا المسح يعتبر الأول بالبلاد للهجرة الدولية وسيغطي كامل مناطق الوطن”.

وأوضحت أنه سيبدأ من يوليو 2020 وحتى مارس المقبل. و”سيشمل المسح عينة من الأسر تضم مختلف الفئات من مهاجرين، ومهاجرين عائدين، وأجانب مقيمين في تونس، ومهاجرين قسريين، والأشخاص الذين لم يسبق لهم أن هاجروا”.

وأوضحت الطويري أن هذا المسح سيشمل في مرحلة أولى 1860 منطقة موزعة على كامل البلاد أي ما يعادل 150 ألف أسرة، ويهدف المسح إلى “المساهمة في إرساء نظام معلومات حول الهجرة في تونس ودراسة إشكالية الهجرة الدولية وأسبابها ودوافعها وحركيتها وآثارها وعلاقة الهجرة بالتنمية”. ويندرج المسح الذي ينظمه المعهد الوطني للإحصاء والمرصد الوطني للهجرة (حكومي) بالتعاون مع المركز الدولي لتنمية سياسات الهجرة، في إطار المشروع الأورومتوسطي الذي يهدف لإنجاز مسوح عن الهجرة الدولية في عدد من دول جنوب وشرق البحر المتوسط.

ووفق إحصائيات رسمية، يبلغ عدد الأجانب في تونس 53 ألفا يمثلون جنسيات مختلفة منهم 12 ألفا من دول أفريقيا، في حين يبلغ عدد التونسيين المقيمين خارج البلاد مليونا و300 ألف تونسي أغلبهم يقيمون في فرنسا تليها إيطاليا ثم ألمانيا، فبلدان الخليج العربي.

وبدل المطالبة بتسريع عمليات الترحيل في الدول الأوروبية، يرى بن عمر أنه سيكون من المهم من الجانب التونسي بذل جهود أكبر لتنقية المناخ السياسي في تونس وتبديد حالة القلق العامة في البلاد، مضيفا أن الرئاسة التونسية يمكنها أن تطرح مفاوضات جادة مع الجانب الأوروبي من أجل برامج للهجرة المنظمة.

19