شباب تونس في خضم المفارقات

عوض "الحلم التونسي" المبني على المساواة في الفرص ضمن مجتمع تشكل الطبقة الوسطى محوره الأساسي نشأ الوهم بإمكانية تحقيق الانتقال السلس من مرحلة الحياة العالقة إلى مرحلة العيش الرغيد وراء البحر.
الجمعة 2024/09/06
الشخصية - القدوة التي يحتاجها الشباب التونسيون

عندما أحرزت البطلة التونسية البارلمبية روعة التليلي ميدالية ذهبية في رمي الجلة منذ أيام خلال ألعاب باريس (لأصحاب الإعاقة) كان من اللافت رقصها احتفالا بالفوز وكذلك الرسائل التي وجهتها للتونسيين والتونسيات.

صرحت لوكالة أنباء أسوشيتد بريس أن تألقها خلال الدورات المتتالية للألعاب البارلمبية التي شاركت فيها (وحصلت خلالها في الجملة على ثماني ميداليات ذهبية) لم يكن أبدا سهلا بالنسبة إلى امرأة في قصر قامتها – التي لا تتجاوز مترا و33 سنتيمترا – و بلوغها سن الرابعة والثلاثين في حين أن منافسيها أصغر منها سنا بكثير.

وفي حديث أدلت به إلى موقع الألعاب البارلمبية وجهت روعة رسالة إلى النساء التونسيات والعربيات مفادها أن “عليهن الإيمان بقدراتهن والسعي لتحويل ضعفهن إلى قوة في أيّ ميدان يردن التميز فيه. يكفيهن النظر إلى روعة المعوقة كيف تحدّت الإعاقة لتحقيق نتائج جيدة”.

◄ روعة التليلي تدعو بكلامها ونجاحاتها إلى إعادة الاعتبار إلى قيم العمل والاجتهاد التي لا زالت تحتاجها تونس وتحتاجها أجيالها الصاعدة

وأضافت قائلة في معرض نصيحتها “عليك أن تتمسك بأحلامك. واجتنب اليأس وتيقن أنك سوف تنجح تدريجيا.. يجب أن تتحلى بالصبر والعزيمة اللازمين لتجاوز أي فشل يعترضك”.

سردت روعة بكلامها خلاصة تجربة كفاحها اليومي من أجل فرض ذاتها في المحافل الرياضية ومعترك الحياة كامرأة سعت للتعويل على ذاتها دون مركبات رغم إعاقتها الجسدية.

عدّدت في نفس الوقت خصالا أضحى يفتقدها المجتمع التونسي إلى حد كبير، وخاصة أجياله الشابة من الجنسين.

لروعة ثقة كافية في النفس تجعلها تتكلم عن نفسها بضمير الغائب واعتبار ما أنجزته وتنجزه مثالا يمكن أن تحتذي به النساء الأخريات، وإن كان الشبان في تونس ربما معنيين به أكثر.

أول هذه الخصال التي أضحت نادرة هي الصبر والمثابرة بعكس ما يتربى عليه الشاب اليوم في تونس من الرغبة في النجاح السهل والسريع.

لا يترك الكثير من الشباب لأنفسهم هامش الانتظار أو التدرج في جني ثمار الجهد الذي يبذلونه. ينظر الجيل الحالي من الشباب إلى الأجيال التي سبقته على أنها أجيال المغفلين. لا يفهم كيف كان خريج الجامعة أو حتى المنقطع عن التعليم يقبل أن يقضي أعواما وعقودا في انتظار فرصة الشغل الكريم وبناء الأسرة.

عقلية الكثيرين من أفراد الجيل الحالي امتداد لاهتزاز منظومة القيم السابقة نتيجة التطورات العميقة التي تراكمت منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبدأ على إثرها مرجل اليأس من الانتظار في الغليان. تغيرت الكثير من السلوكيات بعد أن أحست الأجيال الجديدة المحرومة والمهمشة بأن اللعبة مغشوشة. أحست بأن المصعد الاجتماعي قد تعطل منذ زمان سواء لخريجي الجامعات أو للمنقطعين عن التعليم.

أصبحت فرص الشغل والعيش الكريم صعبة المنال للمتخرجين كما لغيرهم. سيطر على الأذهان الاعتقاد بأن قاعدة المساواة في الفرص تداعت بفعل طغيان المحسوبية والفساد والنعرات الجهوية والفروقات الطبقية.

مع استشراء الشك في المسلمات السابقة تبدد الاستعداد للصبر والانتظار، في حين ارتفع سقف الطموحات والتوقعات الفردية.

◄ أرقام العاطلين عن العمل بين الشباب مرتفعة وهي تتجاوز 40 في المئة بين من هم بين 15 و24 سنة. تحتاج البلاد إلى طفرة في نسبة النمو تخلق مواطن الشغل الكافية

حاول أفراد هذا الجيل الغاضب في البداية البحث عن حلول جماعية. فكانت مظاهرات الحوض المنجمي بعد 2008 ثم التحركات الاحتجاجية الواسعة التي عصفت بالنظام القائم آنذاك بداية من نهاية سنة 2010 إلى مطلع 2011.

سقط النظام وورثته طبقة سياسية جديدة خيبت كل الآمال عوض أن تحييها. وساءت الأحوال الاجتماعية عوض أن تتحسن. ووجد الشباب المحتج أن طريق الحلول الجماعية غير سالكة.

أصبح الحل عندئذ فرديا بامتياز. ومن أبرز تجلياته الهجرة ومغادرة البلاد بكل السبل، ولو كان ذلك على متن قارب من قوارب الألومنيوم التي يصنعها مهربو البشر في نواحي صفاقس.

عوض “الحلم التونسي” المبني على المساواة في الفرص ضمن مجتمع تشكل الطبقة الوسطى محوره الأساسي نشأ الوهم بإمكانية تحقيق الانتقال السلس من مرحلة الحياة العالقة إلى مرحلة العيش الرغيد وراء البحر.

ونمت ضمن هذا الخضم مختلف التناقضات والمفارقات. شباب تونسيون يرفضون الأعمال الشاقة في بلادهم و يقبلون بها في روما وبروكسل وباريس. يبحثون عن العمل غير المضني ويبرهنون على إنتاجية محدودة حسب كل المقاييس، لما يكونون في بلادهم. ولكنهم حالما ينتقلون إلى الخارج يظهرون قدرة استثنائية على الانضباط وعلى البذل والعطاء دون حساب.

مفارقات أخرى من ضمنها أن شرائح واسعة من المجتمع تنزعج من توافد أفارقة جنوب الصحراء عبر حدود البلاد البرية بأعداد كبيرة. ولكنها لا تتوانى عن تشغيل هؤلاء العمال الوافدين في وظائف لا يجد الكثير من أصحاب المقاهي والمطاعم ومحطات البنزين من يتولاها من التونسيين. يرى الكثيرون أن الجرايات المعروضة عليهم لا تتناسب مع الجهد الذي يتطلبه العمل المطلوب.

◄ لروعة ثقة كافية في النفس تجعلها تتكلم عن نفسها بضمير الغائب واعتبار ما أنجزته وتنجزه مثالا يمكن أن تحتذي به النساء الأخريات، وإن كان الشبان في تونس ربما معنيين به أكثر

لم تبق المدرسة بمنأى عن هذه التحولات. هناك بالطبع نخبة من التلاميذ والطلبة لا تدخر جهدا للتميز وتعرف أن النجاح في تحقيق ذلك يتطلب مثابرة واجتهادا، ولكنّ أعدادا أخرى من الشباب قد تكون أكبر مازالت تملأ قاعات المقاهي طوال اليوم، في أوقات من المفروض أن تكون فيها على مقاعد الدراسة سواء في المعهد والجامعة أو في المكتبات. تفاوت في الجهد المبذول بين الجنسين يجعل تحقيق الفتيات لنتائج أفضل من زملائهن الذكور في الامتحانات أمرا متوقعا ومعقولا.

تبدو روعة التليلي وكأنها تسير عكس التيار السائد. تيار يبحث أهله عن بدائل للجهد والعمل، وإن كان الكثيرون لا زالوا يجرون وراء العمل مهما كان فلا يجدونه.

أرقام العاطلين عن العمل بين الشباب مرتفعة وهي تتجاوز 40 في المئة بين من هم بين 15 و24 سنة. تحتاج البلاد إلى طفرة في نسبة النمو تخلق مواطن الشغل الكافية. ولكنها تحتاج أيضا إلى تطور في عقليات الشباب. إذ أن فرص الكثير من هؤلاء في الشغل سوف تتحسن لو أنهم انفتحوا على سلوكيات جديدة مثل القبول بالعمل اليدوي واكتساب مهارات جديدة، ولو بعد التخرج، والتدرج في مسيراتهم المهنية.

لهم في روعة التليلي مثال. فهي حققت أفضل النتائج الرياضة رغم الإعاقة الجسدية التي تحملها بإصرارها على الإنجاز رغم كل التحديات. وهي اليوم ترسم بكلامها ملامح الشخصية – القدوة التي يحتاجها الشباب التونسيون وهم يبحثون عن طريقهم وسط المفارقات.

تدعو بكلامها ونجاحاتها إلى إعادة الاعتبار إلى قيم العمل والاجتهاد التي لا زالت تحتاجها تونس وتحتاجها أجيالها الصاعدة.

9