شباب الثورة السودانية على قارعة الانتظار لتحقيق المطالب

بعد عام على نجاح الثورة السودانية في الإطاحة بنظام عمر البشير، يشعر الشباب الذين شاركوا في الثورة، أن الطريق ما زال طويلا لتحقيق العدالة الانتقالية ومطالبهم وأهدافهم، لكنهم يؤكدون أن التغيير بدأ فعلا ولن تعود العجلة إلى الوراء.
الخرطوم - استعاد الشباب في السودان ذكرى السادس من أبريل، دون أن تسمح جائحة كورونا بالاحتفال بها، مع ما تمثله من محطة حاسمة للمتظاهرين الذين صمدوا أمام ميليشيات الحركة الإسلامية السياسية، وتمكنوا من عزل عمر البشير.
اعتصام الخرطوم، الذي استمر خلال الفترة من 6 أبريل إلى 3 يونيو عام 2019، لا يزال يحمل مشاعر متضاربة للشباب الذين شاركوا به، بسبب الأحداث الدامية التي راح ضحيتها الكثير من المحتجين، لكن في نفس الوقت شهدت الساحات حالة من التضامن والتكافل الاجتماعي حيث كانت فرق ولجان الاعتصام، تقوم بتنظيم ساحة الاعتصام من خلال الاهتمام بتوفير الطعام وأعمال النظافة والرعاية الطبية، وأنشأ الشباب نقاط تفتيش أمنية في مداخل الساحة، كما تم إنشاء مستشفيات طوارئ ميدانية بساحة الاعتصام.
ومع غياب مظاهر الاحتفال بهذه الذكرى في السودان، شدّت صورة لأحد شباب الاعتصام الاهتمام العالمي، بعد أن فازت بجائزة “وورلد برس فوتو” العالمية لعام 2020.
قصيدة تختصر الأحلام
يستعيد محمد يوسف، الفتى السوداني الذي يحتل صدارة الصورة، بتأثر تلك اللحظات من الثورة التي نجحت في إسقاط الرئيس عمر البشير، عندما أنشد قصيدة اختصرت أحلامه وأحلام المتظاهرين من حوله.
وتظهر الصورة التي التقطها مصور فرانس برس ياسويوشي تشيبا في يونيو 2019 محمد يوسف الذي كان في الخامسة عشرة آنذاك، وهو يقف بين مجموعة من المحتجين في أحد أحياء الخرطوم، واضعا يده على صدره ومنشدا قصيدة.
كان ذلك بعد وقت قصير من عملية فض الاعتصام الشعبي أمام مقر قيادة الجيش السودانية في الخرطوم التي قتل فيها 128 شخصا، بحسب مصادر قريبة من المعتصمين، و87 شخصا، بحسب مصادر رسمية.
وبعد حوالي السنة، ومن منزله في الخرطوم، يروي يوسف “كنت منتشيا بالهتاف من حولي، ولكنني كنت أشعر بالحزن بسبب الشهداء الذين فُقدوا في ساحة فض الاعتصام والمفقودين الذين لا نعرف عنهم شيئا”.
ويضيف “بعد تلاوة القصيدة، انتحيت جانبا وبكيت”.
كان يوسف يرتدي في ذلك المساء قميصا أزرق، فيما أضاء المتظاهرون أنوار هواتفهم المحمولة التي شكلت هالة من حوله، وهو يلقي الشعر باللهجة السودانية، بشغف وحماس، “دقّوا النحاس من ضيّ .. صوت الشوارع حي.. مفيش تخاذل تب .. ما فينا زول ئي” (اقرعوا الطبول مع أول ضوء للصباح.. الصوت القادم من الشارع حي.. ليس هناك تخاذل نهائيا.. وليس بيننا ضعيف أو جبان). ويصيح المحتجون وراء كل بيت “ثورة”.
ويتابع الفتى “الناس الصابرة سنين والجمرة في ايدها، باكر النضال يثمر راويه دم الشهدا” (الذين صبروا لسنوات والجمر بأيديهم، غدا يثمر نضالنا الذي ارتوى بدماء الشهداء).
وكانت هذه القصيدة رائجة خلال الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت في ديسمبر 2018 في السودان ضد الرئيس عمر البشير، ونجحت في إسقاطه في أبريل 2019. لكن الاحتجاجات تواصلت للمطالبة بتسليم الحكم للمدنيين.
وبالنسبة للشباب المحتجين، تمثل ذكرى الاعتصام مثالا لما ينبغي عليه أن يكون التضامن والتعاون بين جيل الثورة من أجل المساهمة في نهوض البلاد بمبادرات ذاتية، وليس فقط الاعتماد على الحكومة، ففي ساحة الاعتصام، نظموا لجانا متعددة كل منها تقوم بدور، وريان الحاج، أحد أعضاء لجنة النظافة.
ذكرى الاعتصام تمثل مثالا لما ينبغي عليه أن يكون التضامن بين جيل الثورة من أجل النهوض بالبلاد بمبادرات ذاتية
وقالت الحاج إن “اللجنة مسؤولة عن التنظيف وتضم كلا الجنسين، وأعضاء اللجنة ينسقون في ما بينهم للقيام بأعمال النظافة في ساحة الاعتصام ويوزعون الأفراد على كافة المناطق حيث لكل شخص منطقة معينة عليه تنظيفها يوميا”.
وأضافت “أعمال النظافة عادة تكون على فترتين صباحا وعصرا، وتُجمع القمامة في أكياس مخصصة وأماكن معينة ثم يأتي الشباب ويحملونها إلى العربات التي تقوم بدورها بنقلها إلى المكبات”.
وأشارت إلى أن “اللجان المشرفة على ساحة الاعتصام تقوم بتوفير أدوات التظيف اللازمة من مكانس وأكياس وقفازات وكمامات موجودة بالمخزن، علاوة على قيامها بأعمال النظافة فإنها تقوم بتوعية الجماهير بأهمية الحفاظ على نظافة ساحة الاعتصام ووضع القمامة في الأماكن المخصصة لها، وقد وجدت تجاوبا كبيرا ووعيا من المعتصمين”.
وفي الثالث من يونيو، أقدم مسلحون بملابس عسكرية على تفريق المعتصمين بالقوة. ومنذ أغسطس الماضي، يتولى مجلس سيادي انتقالي يضم عسكريين ومدنيين مقاليد الحكم في البلاد.
ويسترجع يوسف ذكريات مساء 19 يونيو 2019، يوم تمّ التقاط الصورة، ويروي أنه تمّ قطع التيار الكهربائي في المنطقة تلك الليلة، بينما كان الجميع ينتظر كلمة لقيادات تحالف الحرية والتغيير الذي قاد الاحتجاجات، كما حُجبت خدمة الإنترنت عن العاصمة السودانية.
وبدأ المحتجون بالبحث عن مولد كهربائي ووضعوا حواجز على الطرق المحيطة بهم لتأمين منطقة التجمع. ويقول يوسف “الجميع كان متوترا أو يخشى من أن تهاجم القوات الأمنية المنطقة”.
وشارك يوسف وأفراد أسرته في الاعتصام والاحتجاجات ضد البشير والتي بدأت بسبب زيادة أسعار الخبز، منذ انطلاقها.
ويقول إن السبب الرئيسي لمشاركته في الثورة هو “وقف سفك الدماء في دارفور”.
واندلع القتال في إقليم دارفور في غرب السودان في 2003، عندما حملت مجموعة من أقليات أفريقية السلاح ضد حكومة البشير رافضة تهميش الإقليم سياسيا واقتصاديا.
وبحسب الأمم المتحدة، قُتل 300 ألف شخص جراء النزاع، وشُرد 2.5 مليون من منازلهم. وتفاوض الحكومة السودانية الحالية لإنهاء هذا النزاع.ويقول يوسف “أشعر بالاستياء لأن المطالب الأساسية لم تتحقق وهناك تباطؤ من الذين فوضناهم لتحقيق مطالبنا”، وأبرزها محاسبة المسؤولين عن فض الاعتصام وانتهاكات دارفور. لكنه يتمسك بالأمل “لكننا سنصبر. لكي يتم حل الأزمة، هؤلاء الناس (الحكومة) يحتاجون إلى وقت”.
ووافقت الحكومة في فبراير على مثول البشير المعتقل حاليا في سجن في الخرطوم، أمام المحكمة الجنائية الدولية التي تلاحقه بمذكرة توقيف دولية بتهمة ارتكاب “جرائم حرب” في دارفور.
ويدرس يوسف في مدرسة خاصة، إلا أنه منذ مارس لا يغادر منزله مع والديه وأربعة أشقاء وشقيقات بسبب تدابير الإغلاق الحكومية المتخذة للوقاية من فايروس كورونا المستجد. وبلغ عدد الإصابات في السودان حتى اليوم 162 بينها 13 وفاة.
وهو يحلم بأن يصبح مهندسا، ويقول إنه يستغل الوقت اليوم للمطالعة حول تاريخ السودان.
وتقول أسرته إنه بعد انتشار صورته، صار أساتذته ورفاقه في المدرسة يلقبونه بـ”المناضل يوسف”. ويعتبر والده يوسف عثمان، طبيب الأسنان والأستاذ الجامعي، “الصورة تحية للثورة السودانية”.
وعقدت آمال كبيرة على السودان بعد الثورة، للاستثمار في طاقات الشباب الذين عانوا من البطالة والتهميش، ومن حرمان كبير سواء في ما يتعلق بحرية الرأي والتعبير أو حتى بتأسيس مشاريع خاصة طيلة ثلاثة عقود. وتوقع الشباب الذين شاركوا بحماس في الثورة، أن تعمل الحكومة الانتقالية على معالجة مشاكلهم الحياتية المتأزمة في عهد سلطة أمنية عقائدية لا تعترف بالآخر ولا بطموحاته.
أولويات الحكومة
لكن الحكومة منشغلة بالجوانب السياسية والأمنية التي تستوجب تنظيف مؤسسات الدولة من الإسلاميين الأمر الذي يعد أولوية في الفترة الراهنة لمنع عودة رموز النظام القديم، بينما ينتظر الشباب حل أزمة الخبز والمواصلات والبطالة والعدالة الانتقالية.
وتقول سهى (25 سنة) التي تعاني من البطالة وصعوبة الحصول على عمل، إن العهد البائد كان يعتمد في الوظائف العامة على من يدينون له بالولاء السياسي، لذلك تعتبر هذه المسألة ملحة ويجب على الحكومة الانتقالية أن تقف عندها.
وتضيف “صحيح أنه لا يمكن حل مثل هذه الأمور بوصفة سحرية، لكن يجب البدء بوضع خطة محددة لمعالجة البطالة”. وأشارت إلى بطء الإجراءات المتعلقة بالعدالة الانتقالية، سواء القصاص للقتلى في التظاهرات أو قتلى فض الاعتصام، علاوة على العدالة الخاصة بضحايا الحرب، النازحين في معسكرات إقليم دارفور.
وشكلت الحكومة الانتقالية لجنة مستقلة للتحقيق في فض الاعتصام في أكتوبر، وبدأت نشاطها في بداية نوفمبر. والحكومة الانتقالية شُكلت بناء على اتفاق سياسي بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري، الذي أزاح عمر البشير.
ويرى مكي خليل، وهو شاب شارك في معظم مواكب الثورة، أن الحكومة بطيئة في تنفيذ المطالب الخاصة بالعدالة وحل المشاكل التي تتطلب حلولا عاجلة كالمواصلات والخبز.
ومع ذلك يشدد على أنه “يجب الضغط عليها بالوسائل الدستورية المتاحة مع أخذ الحيطة والحذر من فخ التخوين في هذه المرحلة الحساسة”.
وأضاف أن بعض رفاقه يملكون الصبر والبعض الآخر متعجل لتحقيق المطالب، ووجد لهم العذر في “معظم الشباب حديثي العهد بالسياسة، لم تعركهم الساحات السياسية وجل ما كان لديهم من أسلحة هو الهتاف والمتاريس والتي كانت أسلحة فعالة في المرحلة السابقة”، وتابع “عندما تقل الفعالية في المرحلة الحالية يصاب العديد بالإحباط”.
ويدرك الجيل الجديد في السودان أنه من الضروري والمهم زوال الدكتاتورية حتى من الأذهان، والوصول إلى حكومة مدنية ديمقراطية، يتمتع فيها الفرد بكافة حقوقه المفقودة في العهد القديم، ويتخوف من الممارسات الموروثة من ذلك العهد بسبب تغلغلها في مؤسسات الدولة.
السياسة جزء من الحياة
ويعتبر البعض أن العقلية السياسية التي تدير الدولة هي سبب بطء الإجراءات الخاصة بالعدالة الانتقالية واستعادة الأموال التي استولى عليها رموز العهد البائد، لذلك يجب مواصلة النضال حتى تتحقق مطالب الثورة.
وترى آلاء صلاح، الناشطة الشابة، التي مثلت صورها في الصحافة العالمية ومنصات التواصل رمزا لمشاركة الشباب والفتيات في الحراك السلمي الذي قام بتغيير النظام السياسي في بلادها، أن الثورة وحدت السودانيين خلف مطالبهم، وأضافت “الأوضاع في السودان وخاصة الأحداث التي تلت الثورة جعلت كل الناس مشغولين بقضايا الوطن وصارت السياسة جزءا لا يتجزأ من حياتنا. خرجنا إلى الشوارع وهتفنا ورددنا شعارات الثورة: حرية سلام وعدالة.. كنا واعين ومؤمنين بقضيتنا ومطالبنا وأهدافنا وكان لا بد من أن تتحقق إرادة الشعب في نهاية المطاف”.
وقالت الناشطة الشابة إن العمل السياسي لم يكن جزءا من نشأتها داخل أسرة عادية من الطبقة المتوسطة. غير أن مشاهدتها لما يعانيه نصف سكان السودان ممن يعيشون في فقر، دفعت الكثير من الشباب والشابات إلى الانخراط في القضايا السياسية حيث “أصبحت معركتنا من أجل الخبز هي معركة من أجل حريتنا”.
وأكدت أن قصتها هي قصص الآلاف من الرجال والنساء السودانيين الذين خاطروا بحياتهم وسبل عيشهم للمطالبة بإنهاء الدكتاتورية. وقالت إن رحلتها التي قادتها إلى التحدث أمام مجلس الأمن قد “مهدت لها مجموعة كبيرة من النساء السودانيات اللواتي ناضلن من أجل السلام والعدالة في مجتمعاتنا لعدة عقود”.