شاكر نوري يكتب سيرة الوجع العراقي

روائي عرف الطريق إلى بلاده.
الأحد 2023/09/24
يهوى اللعب في الكتابة

يسره أن يكون رساما بعد أن حُرم من أن يكون سينمائيا. ما الضرر في ذلك؟ قد يختلف البعض في ما يتعلق بقيمة ما يرسمه، ولكن لا أحد في إمكانه إلا أن ينظر بتقدير وإجلال إلى جهده الروائي.

قبل أن يكون روائيا عاش صحافيا. لا تزال الصحافة مهنته. وهي مهنة أمدّته بالكثير من المعلومات والصداقات وفتحت أمامه الأبواب الخفية لعالم الثقافة حين وضعته وجها لوجه أمام عمالقة الثقافة الحديثة وصناعها.

كائن باريسي بأريحية

شاكر نوري الذي قضى في باريس أكثر من ربع قرن يعرفه الكثيرون بصفاته الباريسية. تلك الصفات التي تكشف عن صفاء معدنه الإنساني ونقائه وقوة تماسكه.

~ كل ما كتبه نوري من روايات عبارة عن مغامرات للبحث عن شيء مفقود ذلك ما وهبه موقعا لافتا

في العقدين السبعيني والثمانيني من القرن العشرين لم يمر أحد بباريس إلا وكان له نصيب من كرم نوري وضيافته وعمق حدسه وأريحيته.

عرف كيف يدير الحوارات مع الكبار ويقنعهم بجدوى لقائه بهم وهو الذي اعترف غير مرة بأنه فشل في صنع الظرف المناسب للقاء أديب مّا بالرغم من أنه بذل جهودا كبيرة من أجل ذلك.

الباحث عن عراقيته

قبل أن يكتب رواياته كانت حواراته لا تتم إلا من خلال حكاية ينسج خيوطها بنفسه ويكون بطلها الوحيد إلى أن يلتقي بفريسته التي تستسلم بعد أن تتخلى عن دفاعاتها مقابل بطولة ذلك الشاب الذي اعتبر مهنته مغامرة.

كل ما كتبه نوري من روايات هو عبارة عن مغامرات للبحث عن شيء مفقود. شيء لم نكن في حاجة إلى البحث عنه لولا أن الروائي كشف عنه الحجاب. حينها نشعر بالأسى لأننا تأخرنا كثيرا.

ذلك ما وهب شاكر نوري موقعا لافتا في المشهد الروائي المعاصر. يكثر من عراقيته لأنه في حاجة نفسية إليها. غير أنه يسعى إلى ألاّ يسقط في فخ التاريخ بالرغم من أنه عالج في غير رواية موضوعات تاريخية عراقية.

◙ يسره أن يكون رساما بعد أن حُرم من أن يكون سينمائيا
يسره أن يكون رساما بعد أن حُرم من أن يكون سينمائيا

ولأنه يهوى اللعب في الكتابة فقد نجح في تحييد التاريخ لكي لا يكتب رواية تاريخية. كانت عينه المصوبة على الحاضر تحرس خطواته وتحذره حين الاقتراب من مواقع الانزلاق إلى الماضي.

بطريقة أو بأخرى كان عراقيا في موضوعاته غير أن أسلوبه لم يكن محليا. تعلّم نوري من كتّاب مسرح اللامعقول والعبث الذين أعجب بهم أثناء حياته الباريسية الشيء الكثير وبالأخص على مستوى الحيل الروائية.

رواية كل عامين

ولد شاكر نوري في جلولاء عام 1949. درس الأدب الإنجليزي في جامعة بغداد التي تخرج فيها عام 1970. انتقل إلى باريس عام 1977 ودرس علوم الاتصال “الصوت والصوت” ونال شهادة الماجستير عام 1979. ماجستير أخرى نالها من جامعة السوربون في الأدب الإنجليزي عام 1978.

 عام 1980 درس التصوير والإخراج. وحصل على شهادة الدكتوراه عام 1983 في الإعلام من جامعة السوربون.

ما بين عامي 1977 و2004 عاش في باريس وعمل في الصحافة العربية هناك أو مراسلا لصحف عديدة داخل العالم العربي. صدرت روايته الأولى “نافذة العنكبوت” عام 2000. بعدها صار ينشر رواية كل عامين. وهو ما يضعه في قائمة الكتاب العرب الأكثر غزارة. ذلك ما تعلمه في باريس.

إنه ابن الكتابة. وهو يكتب يوميا لأنه يعتبر الكتابة مهنة وليست هواية. علّمته الغربة أن يستعمل موهبته في الكتابة من أجل أن يعيش. فامتزج في خياله كدح العيش بموهبة الإبداع. لم ألتقه في بغداد غير أن صديقا مشتركا كان قد حدثني عنه باعتباره نبوءة روائية.

ما بين “نافذة العنكبوت” و”الرواية العمياء” التي صدرت عام 2022 كتب نوري ثماني روايات ونشر عددا من الكتب النقدية والفكرية. رواياته هي “شامان” و”نزوة الموتى” و”المنطقة الخضراء” و”مجانين بوكا” و”كلاب جلجامش” و”جحيم الراهب” وخاتون بغداد” و”ديالاس بين يديه”.

عام 2013 نال جائزة “ابن بطوطة في أدب اليوميات” عن كتابه “بطاقة إقامة في برج بابل/يوميات باريسية” كما نال جائزة كتارا عن روايته “خاتون بغداد”.

من دراساته نذكر “لا تطلق النار إنها قلعة أور” و”المقاومة في الأدب” و”منفى اللغة” و”اللوبي الصهيوني في فرنسا”. كما قام بترجمة عدد من الكتب منها “موعظة عن سقوط روما” رواية لـ”جيروم فيراري”.

الخيال والواقع

• رسومات الروائي عالم متداخل
رسومات الروائي عالم متداخل

“ما أن أنتهي من رواية حتى أبدأ بأخرى” يقول شاكر نوري وهو من خلال ذلك يؤكد على حاجته إلى العمل اليومي الذي لا ينقطع. ولأنه اتخذ من العراق ساحة لأحداث معظم رواياته في محاولة منه لتأسيس ذاكرة وطنية من نوع مختلف فقد كان عليه أن يستعين بالكثير من المراجع المكتوبة والبصرية لا من أجل أن يخلص إلى الواقع بل لكي لا ينقطع خياله عن الحقيقة.

 بعد نهاية العمل على كل رواية جديدة يمكنه أن يقول براحة ضمير “ذلك ما عشته خيالا وما عاشه سواي واقعا” وربما شكلت أعماله وصية للأجيال القادمة.

ولكن هل يمكننا التعرف على طريقته في العمل وفيها شيء من أسراره الفنية؟

يوضح الكاتب أنه حين شرع في تأليف “الرواية العمياء” عاد إلى قراءة الكثير من المراجع والكتب، منها “قصة الشبيه” للقاص فهد الأسدي وحياة الحسن بن إسماعيل المعروف بابن سيده المرسي وهو لغوي أندلسي وصاحب كتاب “الحكم والمحيط الأعظم” يشبهه نوري بالأرجنتيني بورخيس فهو مثله أعمى ودرس على يد والده الذي كان هو الآخر أعمى وكذلك عاد إلى أرشيف معهد النور لطلبة ذوي الإعاقة البصرية في بغداد.

~ قبل أن يكتب رواياته كانت حواراته لا تتم إلا من خلال حكاية ينسج خيوطها بنفسه ويكون بطلها الوحيد

ربما كانت رواية “العمى” لخوزيه ساراماغو قد حرضته على اختراق عالم العمى العراقي وهي محاولة تكتسب طابعا رمزيا في ظل انهيار القيم الذي رافق الاحتلال الأميركي.

الروائي المخلص

ما قام به الروائي شاكر نوري يكتسب أهميته الاستثنائية من محاولة فهم الواقع العراقي من جهة ومن جهة أخرى من الرغبة في اختراق الشخصية العراقية بحريّة ومن غير خوف أو تردد.

هناك الكثير من الدروس الأخلاقية التي غلفها الكاتب بطابع روائي. فالسرد الممتع والمشوق لمجموعة متلاحقة من الحكايات لم يخف البعد المعرفي الذي يمتد مثل خيط بين حكاية وأخرى. فالروائي لا يلتقط حكاياته من الحارات الشعبية والقصور في الوقت نفسه من غير أن يلتفت إلى المعاني الخفية التي تجرح التسلية.

كان من اليسير على نوري وهو الذي قضى حياته في مهنة الصحافة أن يكتب رواية استقصائية بلغة صحفية، فهو صحافي محترف. غير أنه أراد أن يكتب شيئا مختلفا. أولا لأنه ثقف نفسه على الرواية الفرنسية الجديدة، وثانيا لأنه أراد أن يكشف عن حقيقة ما عاشه العراق في العمق من مأساة ولا يكتفي بما يظهر من خراب.

أدرك نوري بحسه الفني الرفيع أن التوثيق ينفع الحقيقة غير أنه لا يصنع فنا، لذلك لجأ إلى أن يزاوج بين الواقعي والخيالي وهو يحرك الزمن بين مواقعه المختلفة.

ستقرأ الأجيال العراقية القادمة روايات شاكر نوري وترى من خلالها جمال بلاد اختفت.

 

8