شاعرة أميركية تقتفي أثر جدها ابن عربي في قصائدها

رغم ما يبدو عليه العالم اليوم من تقسيمات حاسمة في الجغرافيا واللغات والهويات وغيرها، فإن ذلك أمر مغلوط تماما، إذ يخفي أهم عنصر صنع الحضارات المتلاحقة ألا وهو الهجرات، وبالتالي لا يمكن إنكار التأثير والتأثر الثقافي بين كل الحضارات منذ القدم إلى الآن. هناك من الشعراء الأميركيين مثلا من ذوي الأصول العربية الذين يحملون معهم إرثهم، ومن هؤلاء الشاعرة الأميركية أريكا هيلتون التي كان لـ”العرب” معها هذا الحوار.
“قرأت شعرها مترجما إلى العربية ترجمة عالية. إنها الشاعرة ذات الأصول العربية (أنطاكية) أريكا هيلتون. شعر، نسيج جمالي لا نرى حتى في تباريحه أيّ خيط رمادي. إنه مثل أمواج ورد أحمر، تتقلب في أحضان النهار والليل. وليس الليل في هذه الأمواج ليلا إلا لأنه يتهيأ لكي يحتضن جسدين عاشقين. شعر، عشق: ذروات وأجنحة وترى أني نظرت، لهب الحب يتغلغل في الجسد، خلية خلية. شعر يعيد ابتكار زمن حبه مغنيا: أن تخلق هو أن تحب، وهو إذا أن تجعل من الأبدية لحظة، ومن اللحظة هياما خلاقا”.
هكذا يقدم الشاعر العربي أدونيس ديوان “سأحدثك عن الرياح” للشاعرة والفنانة التشكيلية الأميركية من أصل سوري أريكا هيلتون، الذي ترجمه الشاعر أسامة إسبر وصدر أخيرا عن دار التكوين. وحاورت “العرب” الشاعرة أريكا هيلتون من خلال التواصل مع المترجم، الذي ترجم لها الأسئلة وترجم لنا الإجابات، فكان هذا الحوار الذي يلقي الضوء على تجربة رؤاها وجمالياتها.
الشعر والفن
بداية توضح هيلتون الخلفية الثقافية والإنسانية والمعرفية التي دفعتها نحو كتابة الشعر، تقول “أعتقد أن الأمر موجود في حمضي النووي. كانت والدتي دائما تقرأ الشعر عندما كنت طفلة. كانت تعزف الموسيقى الكلاسيكية وتقوم بالرسم. أعتقد أنها كانت فنانة مكبوتة طوال حياتها وقد ورثت الجينات الإبداعية منها. وأعتقد أيضا أن ذلك يأتي من جانب والدي. قابلت والدي للمرة الأولى عندما كنت في الأربعين من عمري. رغم أنني كنت أكتب الشعر طوال حياتي، إلا أنه قبل وفاته، أعطاني هدية رائعة: شجرة عائلتي. في الشجرة كان هناك العديد من الشعراء والفلاسفة. وبالطبع، كان أشهرهم محيي الدين بن عربي. كانت تلك لحظة اكتشاف كبيرة بالنسبة إليّ”.
وتضيف “قد أكون كتبت قصيدتي الأولى عندما كنت مراهقة. لا أدري كيف حدث ذلك. أعتقد أن الأمر كان موجودا بداخلي طوال الوقت. كنت طفلة غريبة. كنت أحب قراءة المعاجم والموسوعات. بحلول سن العاشرة، كنت أقرأ روايات مثل ‘الحرب والسلم‘ و‘ذهب مع الريح‘. لكنني لم أستطع الاكتفاء. كنت أقرأ أيّ شيء وكل شيء يقع في يدي. ثم أدركت ما أريد أن أفعله في حياتي. أردت أن أكون كاتبة، شاعرة، فنانة”.
تجمع هيلتون بين الرسم والشعر، وتؤكد “كان الشعر وما يزال حبّي الأول. تطور الفن عندما أردت أن أمنح بعدا بصريا للكلمات. لقد طلبت من فنانة أخرى أن ترسم بعض اللوحات لتوضيح شعري، وعندما استلمت تفسيرها بلغتها البصرية، شعرت بخيبة أمل كبيرة. أدركت أنني أستطيع القيام بعمل أفضل بكثير في التعبير عن أفكاري. علاوة على ذلك، منذ كنت طفلة، كنت أرسم وأرسم في ذهني. كنت أستطيع النظر إلى وجه شخص ما وتخطيط الشكل، أو النظر إلى شيء غير حي ورؤيته على الورق. كان تلاقي الفن البصري والشعر شيئا عضويا جدا”.
وتلفت إلى أن علاقتها بالشعر الأميركي بدأت مع كتاب “أركيولوجيا للروح” لشاعر أميركي يدعى فيل كوزينو، وجدته على رف مكتبة فاشترته لأنها أحبّت الغلاف والعنوان. كان ذلك قبل الإنترنت، قبل أن نتمكن من شراء الكتب عبر الإنترنت، عندما كانت المكتبات ملاذا لفتاة صغيرة فضولية وجائعة للحياة.
وتواصل “في ذلك الكتاب كانت هناك قصيدة لبابلو نيرودا ‘صدرُك يكفي لقلبي، وأجنحتي لحريتك‘. لقد كان شاعرا أميركيا هو الذي قدم لي نيرودا، وريلكه، وجميع الشعراء الرومانسيين الذين أثّروا بي. كانت لديّ تجربة أخرى. أيضا حضرت ورشة عمل شعرية مع الشاعر روبرت بلاي. كانت معسكرا لمدة عشرة أيام حيث تعلمنا كيفية ترجمة شعر القرن الثاني عشر الإسباني – العربي إلى الإنجليزية. كانت تجربة مثيرة لترجمة شعر النساء في الحب اللواتي عشن في إسبانيا في القرنين الحادي عشر والثاني عشر. كان الشعر تصويريا وعصريا. بدا وكأنهن كتبن قصائدهن البارحة فقط”.
الأجداد العرب
تعلّق هيلتون على تلك الأنفاس الصوفية في قصائدها التي تقود إلى ابن عربي والرومي، فتقول عن تأثير الصوفي على عملها كشاعرة وفنانة “عندما بدأت في كتابة الشعر، لم يكن لديّ أيّ فكرة من هو ابن عربي أو الرومي. اكتشفت الرومي أولا لأنني كنت قد سمعت عن مولانا ‘النطق التركي‘، لكن لم تكن لديّ أيّ فكرة عنه. كل ما كنت أعرفه عن مولانا هو أنه درويش يرقص. عرفت عن ابن عربي بعد أن أعطاني والدي شجرة نسب عائلتي قبل أن يموت”.
وتتابع “أعطيت الشجرة لأستاذ دراسات إسلامية في جامعة شيكاغو. صُدم عندما رأى قائمة أسماء أسلافي: حاتم الطائي، امرؤ القيس، محيي الدين ابن عربي. يبدو أن سلالتي مزيج من هؤلاء الشعراء المختلفين والمتشابهين. كان لهم جميعا تأثير عميق في الناس في جيلهم وما بعده. لذا أعتقد أن هذا شكل دائما جزءا من هويتي”.
وتواصل “تعلمت عن الصوفية وأدركت أنها كانت منزلي. نشأت دون أن أعرف من أكون أو من أين أتيت لأنني تربيت دون والدي. كان الأمر مثل أن أكون يتيمة. عدم معرفة والدك والأقارب الذين يشكلون فهمك للعائلة، ثم فجأة تجد صندوق كنز مليئا بالجواهر والذهب يتساقط كالشلال. وها أنا الآن، لديّ نوع من الأساس للوقوف عليه، رغم أنني تعلمت عن هؤلاء الأجداد البارزين بعد سنوات عديدة من كتابة الشعر. إذا كان هناك شيء، الآن بعد أن عرفت عنهم، لا يمكنني مقارنة نفسي بأحد، خاصة هذه الشخصيات التاريخية. أعتقد أننا جميعا يجب أن نصنع تاريخنا الخاص. نخلق قصصنا الخاصة. وربما، فقط ربما، نكون جزءا من التاريخ بطريقة تؤثر بعمق على الآخرين”.
وتكشف هيلتون “يبدو أن حياتي مقسمة إلى العديد من الأقسام: معارضي، الفنانين الذين أمثلهم، لوحاتي وشعري، جهودي في العدالة الاجتماعية، وتبدو جميعها منفصلة. لكنني تعلمت أن كل فنان أعمل معه يؤثر على عالمي الداخلي والخارجي. وأعتقد أن دعمي يؤثر عليهم. هـذا المزيج من جميع الفنون يتداخل في واحد. يبدو كأجزاء مختلفة من جسد واحد، جسدي. ولكن دون هذا الجزء، لا يمكن أن يكون الجسم كاملا. صالتي مختصة في مجال بيع الفن، وهو عنصر مهم في عملية الإبداع. أعتقد أنه يجب على الفنانين كسب المال من جهودهم، وإبداعهم، من تعبير عقولهم وقلوبهم وأرواحهم، لأنه دون ذلك، ستبقى الإنسانية بلا شيء سوى عالم ممل وبلا لون”.
تضيف الشاعرة “في العام الماضي، كان لي شرف استضافة معرض فني للشاعر أدونيس. كانت تجربة عميقة أن أقدم لوحاته الجميلة التي تمزج بين شعره والشعر العربي الكلاسيكي للجمهور الأميركي. كان الناس مندهشين بأعماله. وجدت نفسي مشدودة إلى لوحة انتهى بي الأمر بشرائها لمجموعتي الخاصة. لم أستطع قراءة القصيدة المكتوبة بخط فني عربي جميل حتى طلبت من صديق ترجمتها لي. من بين 90 لوحة لأدونيس كان بإمكاني اختيارها، كانت تلك هي التي نادتني. تبين أنها كانت تحتوي على شعر جدي امرؤ القيس. كم كان ذلك حظا رائعا؟ لقد قلت دائما إنه دون الفن، لن نعرف شيئا عن تاريخ تطور الإنسانية. من خلال الفن، يمكننا أن نتعلم من أجدادنا ومن أقراننا. يساعد الفن في تحفيز عقولنا. وأنا لا أتحدث فقط عن الفنون البصرية، ولكن أيضا عن الفنون الأدبية، والموسيقى، والرقص، والسينما، والهندسة المعمارية”.
لأجل الأمل والأحلام
تعترف هيلتون “لديّ ذكريات قليلة جدا من طفولتي، من المكان الذي ولدت فيه. تلك الذكريات تكمن نائمة في مكان ما في مؤخرة ذهني. يساعدني الشعر على استكشاف تلك الذكريات الكامنة، تلك الفتاة الصغيرة التي كانت خائفة، الفتاة الصغيرة التي لم تنتم، الفتاة الصغيرة التي لم تستطع الكلام في سن السادسة، لأنها لم تعرف اللغة. كانت تتوق بشدة إلى الانتماء. وفي الواقع، الانقسام أعمق من ذلك”.
وتتابع الشاعرة “وُلدت في تركيا، لكنّ والديّ كانا لبنانيين وسوريين. أنا عربية خالصة. وُلدت في بلد كانت عائلتي فيه أيضا من ثقافة أخرى. كانت عائلتي تتحدث العربية في المنزل، وليس التركية. عندما جئنا إلى أميركا، كانت والدتي تتحدث معي فقط باللغة التركية، لأنها كانت تريدني أن أتعلمها، لأننا كنا نسافر إلى هناك كل بضع سنوات. لذا، فإن لغتي العربية نائمة في مكان ما في ذهني جنبا إلى جنب مع ذكريات الطفولة. لا زلت أفهم بعض الكلمات والعبارات باللغة العربية، لكنها تبدو بعيدة جدا. أعتقد أن الشعر هو الشوق إلى شعور الانتماء. لم أستطع أن أكتشف أبدا أين أنتمي، لكن عندما أقرأ أو أكتب الشعر، أشعر أخيرا أنني في المنزل”.
وتشير إلى أن “الشعر هو إحساسي بالوجود، إنه ملاذي. كما ذكرت، لم أشعر أبدا أنني أنتمي إلى أيّ مكان، إلى أي بلد، أو أيّ عرق من الناس. لكنني أشعر بانتماء عالمي. ومن المثير للاهتمام، أنني أشعر أنني في المنزل على متن طائرة عندما أطير إلى مكان ما. هل أكون أهرب أو أذهب نحو شيء ما؟ كثيرا ما أطرح على نفسي هذا السؤال.. بينما يتشرد البشر اليوم في جميع أنحاء العالم، متمسكين بالحياة، أشعر بتعاطف كبير مع وضعهم. هل يمكنني حقا فهم معاناتهم؟ كيف سأشعر إذا قيل لي إنه يجب عليّ مغادرة منزلي وكل ما يعني لي؟ كيف سأشعر إذا قُتل أحبائي أمام عيني؟ لا أستطيع أن أتخيل الفراغ، والخدر، وإحساس اليأس الذي قد يسببه ذلك. كيف سأشعر إذا لم أستطع عبور حدود، وإذا كان للآخرين السيطرة على حياتي؟”.
في قصيدتها “سأحدثك عن الرياح”، تقول:
سأحدّثكَ عن الرياح.
يمكنها الدخول إلى أي مكان.
ولا تحتاج إلى تأشيرةٍ
كي تدخل شعركَ
أو بلدا رسم حدوده قلمُ واضع الخرائط.
تعلق “عندما كتبت هذه القصيدة، لم تكن لديّ فكرة أنها ستحمل معنى لظروف اليوم. إن هدفي هو تسجيل مشاعر الإنسانية، لغرس بعض الأمل، والحب، والإلهام في عالم يفتقر إلى الأمل، عالم يفتقر إلى الأحلام، حتى يتمكنوا من الهرب للحظات، ويستمروا في الهرب، حتى يأتي يوم تصبح فيه تلك اللحظات ساعات، وأياما، وأسابيع، وشهورا، وسنوات، ثم يصبح الجمال، والحب، وفرح الحياة واقعهم”.
في قصيدتها “رمز هيروغليفي”، تكتب:
أو يمكن أن يقولوا:
لقد شاهدتْ الأودية الأكثر عمقا
حيث تُقطع الأجنحة
ويتم إخراس الألسنة
وكان الطيران غير مرجّح
لكنه لم يكن مستحيلا بالنسبة إليها.
كانت تزور دوما أمكنة
في منطقة البحر الأحمر
حيث يكمن الخطر
وراء كل ابتسامة.
وحين لم يكن هناك مخرج،
أو مجال للعودة
عثرتْ على طريق
يقود مباشرة نحو الأمام.
لم يكن هناك سبب للخوف
لم تتوقع أن تحملها الملائكة.
صنعتْ جناحيها
من حيطان الآجرّ التي تهدمت
أمام إرادتها.
تقول هيلتون “أشعر كأنني طفلة تخطو خطواتها الأولى. تتعلم المشي. إنه أمر مُخيف قليلا. أطرح على نفسي ما إذا كنت أقول شيئا يستحق العناء”.
وتذكر أنه كان هناك اقتباس قرأته كطفلة وكان دائما نجم هدايتها “نحن جميعا نختار ما نرغب بأن نكونه، لا أحد يُجبرنا أو يُلزمنا. فالرياح نفسها التي تدفع سفينة نحو الصخور يمكن أن تدفعها بسهولة إلى ميناء آمن. باختصار، ليس الأمر متعلقا بالرياح، بل بتوجيه الشراع”.
وتضيف “بالطبع، لا يمكننا التحكم في ما يفعله الآخرون. يمكننا فقط التحكم في ردود أفعالنا. يمكننا توجيه شراعنا نحو ميناء آمن. حتى لو بدا ذلك مستحيلا الآن، فأنا أؤمن بالإمكانات. أؤمن بأننا كمبدعين، يمكننا رسم أو كتابة قصتنا.. لم أؤمن أبدا أن حياتنا محكومة بالأحداث التي حدثت سابقا، أو أننا لا نستطيع تغيير ظروفنا بسبب خيار واحد أو آخر. أؤمن بقوة الرؤية. أؤمن بالإرادة الحرة، أنه يمكننا اختيار طريقنا كما نريد أن نصممه. حياتي هي دليل على ذلك”.