سيناريوهات الموت على باب الكاظمي

أكثر من سيناريو كان متوقعاً لو نجحت عملية اغتيال رئيس الوزراء العراقي القائد العام للقوات المسلحة مصطفى الكاظمي في ظرف سياسي محلي معقد يتصدر فيه سلاح الميليشيات كوسيلة لفرض الأمر المطلوب حتى وإن كان ذلك مخالفاً للدستور والقوانين التي صنعتها أحزاب الفشل والفساد منذ عام 2005، أو تعريض البلد إلى حرب شوارع بين زعماء السلطة أنفسهم.
فمنذ سيطرة تلك الأحزاب على الحكم سوّقت ونجحت بدعم من ولي الفقيه الإيراني في تعميم فرضية غير دستورية مفادها أن حكم العراق لا ولن يخرج عن الشيعة، قَبِلَ الكرد بها طالما أن مصالحهم مؤمّنة كما خضع لها بعض خريجي المعاهد الدينية وهواة التجارة غير النزيهة من السنة الذين تحولوا خلال سنوات إلى إمبراطوريات للنهب والفساد وإلى أدوات رخيصة للوصاية الإيرانية والتخلي عن قومهم.
بعد سنوات من تضخم تلك الإمبراطورية المشؤومة ودخول أصحاب السلاح الولائي كطرف جديد لم يعودوا راضين بالأدوار الثانوية التي تحققت لهم بفعل ظرف الحرب والانتصار على داعش عام 2017 بل يسعون وبأدوات القتل والترويع والإرهاب إلى تنفيذ مشروع خطير ينهي البقايا المتواضعة من كيان العراق وتحويل مؤسسات الحكومة المدنية والعسكرية بعد انتخابات 2021 إلى نسخة من موديل الحرس الثوري في إيران بكل ما جلبته تلك التجربة من ويلات على شعوب إيران.
ثلاثة تطورات مهمة عرقلت مشروع قطف ثمار السلطة الولائية أخذت تتفاعل لوجستياً بعد انكشاف حقيقة كذبة جمهور الموالين بعد انتخابات العاشر من أكتوبر 2021. أولها ما أحدثته ثورة أكتوبر الشبابية من خرق في جدار نظرية حكم الشيعة لأن الثوار طرحوا مشروعاً وطنياً للتغيير وهم من الفئة الواعية داخل المكوّن الشيعي ذاته.
الثاني، وهو الأخطر، فوز مقتدى الصدر بالانتخابات الأخيرة وما تشكله هذه النتيجة من حوافز تتلاءم مع الكاريزما الشخصية للصدر الحالم بقيادة شيعة العراق بمواصفات بدت بمرور الأيام ذات مخاطر على التيار الولائي.
إصرار مقتدى الصدر ذي النزعة الوطنية العراقية الإصلاحية الداعي إلى بناء حكومة وطنية إذا ما صمد بوجه المكر الإيراني سيربك معسكر إيران وسيؤدي إلى تنامي قوى الإصلاح والوطنية العراقية المستقلة.
التطور العَرَضي الثالث الذي فاجأ قادة الأحزاب وصدمها وتحوّل بمرور الأيام إلى خطر جدّي هو استلام مصطفى الكاظمي لرئاسة الحكومة وهو لأول مرة يأتي من خارج البيت السياسي الشيعي، حولته الظروف المحلية ومحيط العراق العربي والدولي خلال أسابيع إلى عقبة جدّية بوجه مشروع الهيمنة الولائية على سلطة الحكم في بغداد.
لم تنفع الأمثلة الكثيرة التي قدّمها الكاظمي لفصائل السلاح الولائي في تخفيف حدّة الهجوم عليه والتشهير به ثم محاولات اغتياله التي سبقت قصف منزله في السابع من نوفمبر، حيث سبق قبل أسابيع لطائرة مُسّيرة أن هاجمت مقر مركز المخابرات حين كان في زيارة إليه بمدينة المنصور ببغداد. اعتبرت القيادات الميليشياوية مواقف التعبير عن حسن نيّتة وقبوله بالإهانات الشخصية وتغطيته على جرائم زعامات ميدانية منهم بحق شباب أكتوبر ضعفاً في شخصيته وإنه غير مُلبٍّ لمشروعهم في الحكم.
خطورة مؤامرة اغتيال الكاظمي تتجاوز التصفية الجسدية الشخصية إلى السيناريوهات المرسومة لما بعد الاغتيال
محاولة الاغتيال جريمة سياسية لا تحتاج إلى أدلة جنائية مثلما تحاول فصائل “الإطار التنسيقي الشيعي” المتورط بعضها فيها الدفاع عن نفسها. في مثل هذه الجرائم يحرص أصحاب مشروع القتل على الابتعاد عما يثير الشك عبر استخدام أدوات بعيدة جداً عن الشبهات، قد يظهر متورط سنيّ أو داعشي.. هكذا.
خطورة مؤامرة اغتيال الكاظمي تتجاوز التصفية الجسدية الشخصية إلى السيناريوهات المرسومة لما بعد الاغتيال، والتي كانت ستعرّض مصير العراق إلى الانهيار الكامل والمذابح والحرب الأهلية وتصفية الفصائل الشيعية الصدرية وقائدها، وقد يكون من بين احتمالاتها هيمنة إيران الكاملة على حكم العراق وتشكيل هيئة حكم جديدة موالية بصورة مطلقة لها إذا ما أبعدنا احتمالات التدخل الدولي والأميركي في العراق.
لم تنجح مؤامرة اغتيال الكاظمي، رغم توجيه ثلاث مسيّرات لمقر سكنه كانت كافية لتدميره على من فيه، لكن وصول واحدة من تلك المسيرات أحدث الدمار الذي ظهر على شاشات التلفزيون. هذا الفشل العملياتي أوقع المسؤولين عنه في حرج كبير كانوا متحضّرين لمعالجته سياسياً وإعلامياً عبر منطق “التقيّة” في الانقلاب والتنصل من التهديدات المباشرة لليلة السادس من نوفمبر على أبواب المنطقة الخضراء، والتذرّع بخطاب إعلامي متخلف بتوجيه الاتهام للولايات المتحدة وللكاظمي نفسه بأنهم وراء الجريمة المفتعلة.
كان ردّ الفعل الإيراني جاهزاً باستنكار جريمة محاولة الاغتيال رغم أن أداة الجريمة (المسيّرات) إيرانية المصدر. سارع قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني للحضور إلى بغداد بعد أربع وعشرين ساعة من واقعة محاولة الاغتيال من أجل تخفيف وقع الاتهام المباشر للمسؤولين في طهران وللفصائل التابعة لهم. والضغط من أجل تسوية إيرانية لتقاسم السلطة تنقذ وكلاءهم المباشرين.
المثير للسخرية في التصرّف الإيراني القبيح إعلام قاآني للكاظمي عن استعداد طهران للتحقيق في مكر خبيث للردّ على إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن عن مساعدة الحكومة العراقية في التحقيق.
مشهد وضيع آخر يكشف مستوى ارتهان وتبعية من يطلقون على أنفسهم زعامات سنيّة، الذين يشاركون قادة الميليشيات الولائية في هزيمة الانتخابات الأخيرة حيث رفضهم الجمهور العربي السنيّ، يحضرون بتملّق رخيص مجلس العزاء الذي أقامه قيس الخزعلي على روح ضحية تظاهرة المنطقة الخضراء. ذكر أسمائهم قد يرقى بهم إلى مستوى السياسة والاعتبار الشخصي لكن ذكرهم يفضح نفاقهم الرخيص من بينهم محمود المشهداني وسليم الجبوري وخالد العبيدي وغيرهم من المرتزقة، حيث لم يكلفوا أنفسهم إن كانوا صادقين بزيارة عوائل شهداء المقدادية الذين سقطوا قبل أيام.
بخلاصة هناك سيناريوهان متوقعان للأيام المقبلة في العراق: الأول جدّية الكاظمي بإشرافه المباشر على التحقيق الجنائي سريع النتائج في محاولة اغتياله، وقبول المساعدة الفنية الأميركية بذلك وعدم استنساخ التجارب السابقة بلجان التحقيق في قضية سقوط الموصل ومجزرة سبايكر. هذه الخطوات ستؤدي إلى كشف خيوط الجريمة وأدواتها المحلية والخارجية، ذلك سيؤدي إلى الافتراق النهائي بين الكاظمي والميليشيات الولائية.
ضمن حيثيات هذا السيناريو وصول القطيعة بين مقتدى الصدر وكتل الإطار التنسيقي الشيعي إلى القطيعة واحتمال ذهابه إلى تشكيل حكومة بعد قيام كتلة الأغلبية الوطنية من كرد وسنة تقدّم والصدريين وقد ينضم إليهم الفائزون من الحراك الشبابي.
السيناريو الثاني: استمرار سياسة الكاظمي بالمهادنة والخضوع لمن أرادوا قتله تحت مبررات لن تقنع الجمهور العراقي كشعارات ضبط النفس والحفاظ على السلم الأهلي رغم التهديد المباشر لهذا السلم لو تحقق مشروع الاغتيال.
نتمنى عدم تبني الكاظمي لهذا الخيار وتبرئة من أرادوا إدخال العراق في حرب مشتعلة غير معروفة النهاية. المسألة لا تتعلق بتنازله عن حقه الشخصي، هناك حق العراق العام، فمن رضي لنفسه التصدّي للمسؤولية الوطنية في هذا الظرف العصيب عليه تحمل تبعاتها. ولا تكفي شعارات “الشهيد الحي” للوفاء بحماية أهل العراق.