سير النساء تضعنا وجها لوجه أمام حقيقة المجتمعات

كاتبات عربيات يتمرّدن على المجتمعات الأبوية لكشف المسكوت عنه.
السبت 2023/09/23
المرأة العربية تتحرر من صور الذكور (لوحة للفنانة سارة شمة)

واجه أدب المرأة العربية منذ قرون الكثير من المحاصرة، فوضعت المرأة في صف ثان بعد الرجال، بينما تم حجب الكثيرات، إلى أن ظهرت أجيال من الكاتبات المتمردات مع حركة الحداثة في مختلف أنحاء الوطن العربي. كاتبات حكين عن حقائق ذواتهن وتاريخ مجتمعاتهن وواقعهن بطرق مبتكرة لعل أبرزها السيرة الذاتية.

تقول فيرجينيا وولف "إذا لم تقل صدقا عن نفسك فلن تتمكن من قوله عن الآخرين". وتكتب فدوى طوقان في مستهل سيرتها الذاتية "رحلة جبلية، رحلة صعبة"، "لم أفتح خزانة حياتي كلها، فليس من الضروري أن ننبش كل الخصوصيات. هناك أشياء عزيزة ونفيسة، نؤثر أن نبقيها كامنة في زاوية من أرواحنا بعيدة عن العيون المتطفلة، فلا بد من إبقاء الغلالة مسدلة على بعض جوانب هذه الروح صونًا لها من الابتذال". وتتابع “ما كشفت عنه هو الجانب الكفاحي الذي ذكرت قبل قليل. كيف استطعت في حدود ظروفي وقدراتي أن أتخطى ما كان يستحيل تخطيه لولا الإرادة والرغبة الحقيقية في السعي وراء الأفضل والأحسن، ثمّ إصراري على أن أعطي حياتي معنى وقيمة أفضل مما كان مخططا لها".

ما ذا يمكن أن يخطط الآخرون لحياة أيّ إنسان، وماذا يمكن أن يكون هذا المخطط حينما يتعلق الأمر بامرأة، أيّ امرأة، وبالتالي لمسار حياة مبدعة على وجه الدقة؟ وهل انعتاق المبدعات من سلاسل التخفي والحجب لم يكن ممكنا لولا تمردهن على هذه المخططات؟

إن المتأمل في تعريف ستاروبنسكي سنة 1970 حول السيرة الذاتية والذي مؤداه أن السيرة الذاتية "هي سيرة شخص يرويها بنفسه”، يلحظ أنه رغم دقته إلا أنه يظل مشوشا إن لم نقل إشكاليا خاصة حين نروم مقاربة السيرة الذاتية النسوية حصرا. ذلك أن البوح النسائي هو في أحيان كثيرة انبثق من حاجة الاعتراف ولكن أيضا للحفاظ على الأمان ما يعني أن العديد من السير الذاتية النسائية كانت متخفية إما باتباع تقنية الرواية، أو بالهروب إلى اللغة الأجنبية. أي لغة تحمي الساردة أو الكاتبة من تربص القبيلة (آسيا جبار نموذجا).

هي حقيقة توحي لنا بأنّ آسيا جبّار كانت تعاني من مسألة اللّغة، حيث عبرت عن ذلك بوضوح من خلال بعض مؤلفاتها، خاصّة في كتاباتها الأخيرة حين تطرقت لمسألة اللّغة، ويتعلق الأمر بكتابها "هذه الأصوات التي تُحاصرني على هامش فرانكفونيّتي"، الصادر سنة 1999، ورواية "اختفاء اللّغة الفرنسيّة" الصادرة سنة 2003.

القضايا النسوية

لولا التمرد من خلال القلم لكان مسارهن ودون استثناء مخططا أبويا ذكوريا مكرسا لثقافة الخضوع والتمييز
◙ لولا التمرّد من خلال القلم لكان المسار مكرسا لثقافة الخضوع والتمييز

إن تتبع مسار المبدعات وخصوصا الكاتبات والروائيات شرقا وغربا من خلال دراسة سيرهن الذاتية أو سردياتهن التي حملت بين طياتها جوانب من حياتهن وزاوية أو زوايا مسكوت عنها، تقودنا إلى استنتاج أنه لولا التمرد من خلال القلم لكان مسارهن ودون استثناء مخططا أبويا ذكوريا مكرسا لثقافة الخضوع والتمييز، بل والتهميش في أقسى صوره، أجل من هنا فإن نبش حفريات السرديات النسائية يضعنا وجها لوجها أمام عملية مقاربة المهمش في تاريخ السرد الإنساني. والمهمش بالتأكيد هنا هو السرد النسائي خاصة في جانب السيرة الذاتية منه.

لقد طال التهميش الإبداعات النسائية وجهودهن الفكرية والتعبيرية عبر العصور، فالناقد الراحل جابر عصفور مثلا في مقاربته للسيرة الذاتية العربية لم يشر ولو إشارة مقتضبة لأيّ سيرة ذاتية نسوية في تاريخ السرد العربي ككل، هل كان الأمر سهوا أم قصدا ذكوريا، كيف يمكن لناقد بحجم جابر عصفور أن تسقط منه مثل هذه الإشارة خاصة وأن واقع الحال يؤكد أن السير الذاتية النسوية كانت أكثر بوحا وأكثر عمقا من مثيلاتها عند الكتاب الرجال؟

السؤال الذي يفرض نفسه هنا: ألا يمكن القول إن ما هو أقسى وأصعب هو أن تتنصل أقلام نسائية من الاعتراف بهوية السرد النسائي بشكل عام وليس فقط السيرة الذاتية النسائية. ألم تقل فيرجينيا وولف "إخفاء هوياتهن يجري بدمائهن". وهذا ينطبق على كاتبات عديدات في عصرنا هذا، الذي يفصل بينهن وبين عصر فيرجينيا وولف سنوات عديدة، مع ذلك تظل نظرة المرأة الكاتبة العربية لنفسها ولقضيتها مثل كاتبات عصر فيرجيننا وولف في بريطانيا، وإلا فبماذا نفسر ما تذهب إليه كاتبات عديدات من أنهن لا ينطلقن في إبداعهن من القضية النسائية أو من النضال من أجل قضايا نسوية؟

ربما يتناسى أو يغفل العديدون ومن بينهم بعض الكاتبات أن السيرة الذاتية هي مرحلة أرقى في الإبداع النسائي حيث أن هاجس استكناه الهوية الأنثوية وإعادة الاعتبار للإبداع النسائي المهمش هو الدافع للتعبير عن الذات. فالسرد النسوي هو نسوي لأنه يحمل بين ثناياه الهم النسوي ويعبر عن القضايا النسائية والأنثوية، وليس لأنه كتب بقلم نسائي. فالسرد النسائي، ومن ضمنه السيرة الذاتية النسائية، كان لزاما عليه أن يبتعد عن الأبعاد الأبوية والذكورية في البناء، واللغة والحكي، فلا يكفي أن يكون القلم أنثويا.

بهذا المعنى تصبح السيرة الذاتية النسائية هي النافذة الأوسع التي أطلت منها العديد من المبدعات اللواتي لم يكنّ فقط ساردات بشكل إبداعي، ولكن كن صادقات ومقتنعات بمغامرة البوح الفاضح والعميق، فكسرن بالتالي التابوهات الذكورية الأبوية التي طبعت وأطّرت السيرة الذاتية الذكورية لعقود من الزمن الأدبي/السردي.

◙ العديد من السير الذاتية النسائية في العالم العربي كانت متخفية إما باتباع تقنية الرواية أو بالهروب إلى اللغة الأجنبية

هكذا سنرى أن العديد من السير الذاتية النسائية العربية استطاعت أن تكون الصوت النسائي المعبر عن القضايا النسوية وعن طموحات النساء في التحرر من القيود الأبوية ليس فقط على مستوى الكتابة، ولكن أيضا على أرض الواقع من خلال الدفع بالعديد من القضايا والإشكالات النسائية إلى واجهة الاهتمام. فنجد مثلا أن نوال السعداوي ومن خلال سيرتها الذاتية "أوراق من حياتي" تعبر وبكثير من التفاصيل الصادقة والتلقائية، ما يتيح للقارئ الاقتراب من معاناة النساء في البيئة المصرية منذ الطفولة خاصة ما تعلق منها بعادة ختان الإناث، متخذة من تجربتها الشخصية أرضية للنضال من أجل منع هذه العادة المضرة بالنساء.

إن الحديث عن السيرة الذاتية النسائية، يحيل بالضرورة على معاني الهوية الأنثوية والجسد الأنثوي بالتالي القضية النسائية في المجتمعات الأبوية. فالسيرة الذاتية النسائية تفرض توازنا بين الأنا والآخر، بمعنى أكثر دقة التماهي مع قولة سقراط الشهيرة “اعرف نفسك” من خلال سبر عمق الأنا في المتن السردي النسائي وهو يعلن عن ذاته. فهل يمكن أن أعرف الآخر دون معرفة حقيقية وعميقة بالذات؟

تقول العديد من الدراسات النقدية إن سيرة النساء في أدب الأمم شكلت ولا تزال تشكل الحفريات الأكثر صدقا والأقرب إلى الذات الجمعية، ذلك أنها تضعنا وجها لوجه أمام حقيقة المجتمعات من خلال بوح نسائهن، ألسن الحلقة الأضعف في أغلب الحضارات البشرية، ما يمنحهن صوتا ناقدا للواقع وللمرحلة المعيشة؟ هكذا أرادت النساء أن يعلنّ من خلال السرد النسائي وبالخصوص السيرة الذاتية أنه آن الأوان لصوتهن أن يسمع بكل جرأة وشجاعة وبعيدا عن التابوهات والمسكوت عنه. لقد غدت السيرة الذاتية للكاتبة العربية مكانا وملاذا بل هي وطن للعيش كما يذهب إدوارد سعيد (صور المثقف - 2004).

الأدب الأكثر صدقا

صوتا نسائيا نسويا في نفس الآن يرفض ليس فقط المعاناة الفردية ولكن التسلط الأبوي للمجتمع ضد المرأة بشكل عام
◙ صوت نسائي يرفض المعاناة الفردية والتسلط الأبوي للمجتمع ضد المرأة 

حين نقرأ مثلا ما كتبته مي زيادة حول معاناتها مع أهلها نستشف أنها لم تكن تدين العائلة في مصابها فقط، ولكن أيضا تحمّل المجتمع برمته مسؤوليته على صمته إزاء المظالم، وأيضا أدعياء الثقافة في عصرها الذين أبانوا من خلال معاناتها أنهم مجرد منافقين. هكذا تغدو السيرة الذاتية صوتا نسائيا نسويا في نفس الآن يرفض ليس فقط المعاناة الفردية ولكن التسلط الأبوي للمجتمع ضد المرأة بشكل عام (واسيني الأعرج  2018). إن معاناة مي زيادة وأيضا إسهامها الفكري والنقدي الذي التفتت إليه بعض الكتابات النقدية النسائية، نذكر منها على الخصوص كتاب “نساء في غرفة

فيرجينيا وولف” للناقدة الدكتورة سعاد العنزي (2021)، والذي قارب مشروع مي زيادة بالكثير من الشفافية والعمق عكس الكتابات الذكورية التي أغفلت الجانب المظلم وإسهاماتها الفكرية. هذه السرود التي ركزت فقط على رسائلها الغرامية المتبادلة بينها وبين جبران خليل جبران. هذا المعطى يجعل من رأي الكاتبة  مارغريت دوراس التي اعتبرت أنه "على الرجال أن يتعلموا الصمت حتى يفسحوا المجال للنساء كي يقدمن تفسيراتهن الخاصة للأحداث" (بسام قطوس - 2016) صحيحا إلى أبعد الحدود.

تبدو إذن السيرة الذاتية النسائية وجها من وجوه التفسيرات النسائية للحياة وللذات دون وصاية أبوية أو خوف من البوح الصادق والشجاع. وإذا كانت السيرة الذاتية النسائية بشكلها الحالي تفرض نفسها كسرد مختلف، فإن مي زيادة تعتبر رائدة الإرهاصات الأولى للسيرة الذاتية النسائية من خلال يومياتها التي كانت تنشرها بجريدة "الفتاة".

وبالنهاية نقف اليوم على أن السيرة الذاتية النسائية أصبحت تعبر عن ذاتها وتقدم نفسها بديلا عن السارد عنها، الذي ظل ولعقود الزمن الذكوري السردي يمنحها صكوك الغفران إن هي احتمت بقواعده البلاغية وقوالبه الجاهزة على مقياس النقد الأبوي.

◙ الكاتبات يستعملن السير الذاتية كصوت نسائي يعبر عن القضايا النسوية وعن طموحات النساء في التحرر

السيرة الذاتية النسائية، كما السرد النسوي والنقد النسوي عامة، انطلقت لتكون المرأة موضوعا وشكلا، فاعلا ومفعولا، بلغة صريحة حتى الفضح، وبلاغة صادقة حد أفق رحب منحها جدارة أن تصبح موضوعا للدراسة والتحليل. وهو مشروع مازال في بدايته ويستدعي المزيد من نفض الغبار عنه لتغدو للدراسات النسوية مكانا لائقا كمثيلاتها الغربية.

 فهل يمكن أن نفرق بين ما كتبته فيرجينيا وولف في "غرفة تخص المرء وحده" وبين ما أعلنت عنه آسيا جبار في "لا مكان في بيت أبي"، غير فرق الزمن والجغرافيا واللغة. ذلك أن موضوع المرأة هو موضوع إنساني عالمي بالدرجة الأولى. وأخيرا ألا يعتبر فوز الكاتبة الفرنسية آني إيرنو بجائزة نوبل للآداب (سنة 2022) على مشروعها السردي الذي كان سردا ذاتيا نسويا أكبر دليل على أن السيرة الذاتية تتألق حين تكون سردا أنثويا صادقا وشفافا ينطلق من الذاكرة الشخصية للكاتب بلا شك.

12