سيروان باران في مواجهة ذاكرة عنف لا ينتهي

يوما ما كان يمتعه أن يُقال إنه يرسم ويلون مثل الرسامين العراقيين الكبار أو أفضل منهم، غير أنه اليوم وبعد أن خاض مغامرة الرسم لثلاثين سنة بمعزل عن معلميه وفي الوقت نفسه عن مجايليه من الفنانين صار على يقين من أن متعته الحقيقية تكمن في تفرده. متعة الرسم هي الأصل وحريته في طريقة التفكير الفني هي الأساس.
لذلك صار يعصف بيديه كما لو أنهما ليستا له بعد أن اكتشف أنه بدد موهبته في مناطق لا يستحق البقاء فيها الكثير من العناء.
منذ أن تحرر باران من وهم الرسام الأفضل ضمن دائرة ضيقة هي المساحة التي يتحرك فيها رسامو الحداثة العراقيون اكتسبت رسومه طابعا عالميا، بالرغم من أنه كان حريصا على أن يستلهم وقائع كان قد عاشها بشكل شخصي. وهي وقائع تنطوي على الكثير من العنف والقسوة والألم.
لعبة الشكل في خلاصته
سيروان باران هو ابن حرفة الرسم المحلق بخياله بعيدا عنها. كادت تلك الحرفة أن تضيعه حين أوهمته بأن يكون خادمها المطيع. وهو ما فعله رسامون عراقيون محدثون قبله ومن جيله.
قبل سنوات حين التقيته ببيروت تأكدت من أنه كان ابن الهواء الماكر الذي يتغير ولم يكن صنيعة الوصفة الجاهزة التي أحاطت به وقدمته باعتباره عارفا بأسرار الوصفات السحرية التي ينتظر نتائجها رجال المال.
باران يصنع ما يراه ملائما لموهبته التي يعرف حدودها جيدا. هو يعرف أن موهبته تلك تسبق كل ما فيه. وقد لا يكون كل شيء حقيقيا. لكنه يكدح ويجتهد ويقاوم من أجل أن يكون الرسام الآخر الذي ينتظره.
في مرحلة مبكرة من حياته كان رساما مريحا. كانت صوره تسبب السعادة للكثير من السيدات ممن اعتبرن تلك الصور جزءا من الخيال المنزلي بالرغم من أن الرسام لم يقصد القيام بذلك.
وبالرغم من أن تلك الصفة لم تكن ضارة فإن سيروان في معارضه الأخيرة وبالأخص تلك التي أقامها في بيروت والقاهرة والرياض اختار أن يستجيب لقوة الرسم، بغض النظر عما يرسم من موضوعات. لقد رسم كلابا. قبلها كان قد رسم جثثا. بعدها رسم حشودا من ضحايا الحرب.لعبة قد يهبها البعض طابعا رمزيا، غير أنها بالنسبة إلى الرسام مغامرة تتفوق من خلالها الأشكال على موضوعاتها.
تعبيري في أرض خاوية
ولد سيروان باران عارف في بغداد عام 1968. درس الرسم في كلية الفنون الجميلة ببابل كما درسه في ما بعد فيها لمدة سبع سنوات. أقام معرضه الشخصي الأول عام 1991 (بعد وقت قصير من تخرجه) في قاعة الرواق ببغداد. ولم يكن باب تلك القاعة يومها مفتوحا إلا للفنانين المكرسين. أما أن يقيم فنان شاب معرضه الشخصي الأول فيها فإن في ذلك الكثير من الإشارات التي تؤكد تفوقه.
يمكنني القول إن سيروان هو أفضل أبناء جيله الذي لم يكن محظوظا بسبب ظهوره مباشرة بعد حرب تحرير الكويت التي تركت العراق بلدا مهشما. غير أن عين الرسام لم تكن مصوبة نحو جيله بل إنه حاول أن لا يتعب نفسه كثيرا في الالتفات إلى الوراء كثيرا، وكان مقتنعا بلا جدوى ما يقال عن الهوية المحلية. لذلك فقد اختار أن يكون وفيا للرسامين العالميين الذين أعجب بتجاربهم (سوتين وفرانسيس بيكون على سبيل المثال) وتأثر بأعمالهم، من غير أن يلزم نفسه بشروط التماهي مع حداثة المحترف الفني العراقي الذي بدا وقت ظهور الرسام كما لو أنه انتهى إلى أفق مسدود.
وقد لا أكون مبالغا حين أقول إن ظهور ذلك الرسام بكل ما انطوت عليه تجربته عبر أكثر من ربع قرن من الزمن قد مثل فرصة للمحترف الفني العراقي لكي ينفتح من خلاله على تجارب رسامين حداثويين لم يتعرف عليهم من قبل بسبب انغلاقه على تجارب رسامين بعينهم كما هو الحال مع بيكاسو من خلال جواد سليم وتابيس من خلال شاكر حسن آل سعيد وزاووكي من خلال رافع الناصري وراوشنبرغ من خلال محمد مهرالدين.
ما فعله باران كان جذريا في محاولة إنعاش خيال الرسم الحديث في العراق من خلال عقد صلات جوهرية مع رسامين كبار من نوع غويا وايغون شيلا وسوتين ولوسيان فرويد وفرانسيس بيكون.
أعاد باران اكتشاف الجسد البشري بطريقة سمحت له بتحليله وتفكيكه وإعادة تركيبه بما ينسجم مع الرغبة في مساءلته وجوديا. ولأن باران لا يرغب في وصف الجسد فإنه سعى إلى إعادة تعريفه. مهمة شاقة غير أن رساما بحجم باران كان دائما مؤهلا للتصدي لها وخوض غمار مغامرتها. تنتمي رسوم باران إلى التعبيرية الجديدة، غير أن الرسام الذي لا يكف عن الثناء على مرجعياته الجمالية قد نجح في أن يمد تعبيريته بسبل نجاة ليست متوقعة.
الخليقة في بداياتها
“قبلة إلى كلب” كان عنوان معرضه عام 2010. وهو عنوان فيه من الإيحاء الشيء الكثير. كانت الجملة الأخيرة من رواية فرانز كافكا المحاكمة: “مثل كلب”. وكما أرى فإن مشهد جثة الحيوان المعلق لدى سوتين كان أساسيا في السخرية القاسية من العالم الواقعي. بل وحتى من الرغبة في استلهام قواه التعبيرية.
رأيت قبل سنوات رسوما لسيروان باران وظننتها للوهلة الأولى تجريدية. غير أنها لم تكن في حقيقتها كذلك. فالرسام الذي بهرته تجارب أسلافه في تفكيك الجسد البشري وجد متعة في اللقطات القريبة التي تشبه الخلاصات التي تنتهي إليها العين الخبيرة. وهو ما حاول الرسام في ما بعد أن يتخلص منه بذكاء. فسيروان لا يفكر في ما يراه تجريديا. الجانب النظري في تجربته يكاد يكون حكرا على عاطفته. لقد هرب إلى عالم
الخليقة لكي يكون مستقلا بإنسانيته. إنه رهان صعب غير أن الرسام كان وفيا لتجربته. هناك وقائع من حولنا تستحق الوصف، من غير أن تكون مؤكدة على صعيد ما تتركه من أثر.
سيكون علينا أن نحتفي بسيروان باران في المستقبل باعتباره رساما ثوريا. كان عراقيا بعمق وهو ابن عصره. لقد رسم بأسلوب رمزي ما كان يجري في بلاده واضعا نصب عينيه تجربة الإسباني غويا حين قرر هجاء العائلة المالكة. باران من خلال رسومه يهجو طبقة سياسية قُدر لها أن تلعب بمصير شعب، لا يزال موقفه غامضا.
لقد اختار باران أن يكون رساما أولا وهو ما وضعه في مواجهة سؤال من نوع “ما معنى أن يكون المرء رساما معاصرا؟”. بالنسبة إليه فإن التزيينية التي انتهى إليها الفن المحلي لم تعد مقنعة كما أن حداثة الفن في العراق صارت بمثابة أثر يمكن نسيانه في ظل تحولات الفن في العالم. لذلك فقد اختار أن يمضي وحيدا. كان كذلك دائما.
“عراقي وحيد” يمكن أن نصف سيروان باران. فهو لا يشبه أحدا من العراقيين ولا يشبهه منهم أحد. بالنسبة إليه فإن سعادة أن يكون رساما هي الوصفة الحقيقية لحياة يستحقها. غير أن رساما وحيدا مثله يمكن أن يشكل وجوده علاجا لأمراض الرسم الحديث في العراق.
الساحر ومخلوقاته
أقام سيروان باران أكثر من عشرين معرضا. معظمها خارج وطنه. وهو ما ينسجم مع موقعه على خارطة الفن العراقي الحديث. فهو ليس ابنا لأحد من الرسامين العراقيين الذين سبقوه كما أنه ليست هناك من وشائج قربى تربطه بأبناء جيله من الرسامين الذين صار البعض منهم يستنسخ تجارب البعض الآخر، مما أدى إلى أن يكون المشهد الفني في العراق مضجرا إلى درجة لا توصف.
في ذلك الإطار تمثل تجربة سيروان باران حلا، من خلاله ينجو الرسم الحديث في العراق من شمولية الحكم القاسي بتخلفه وفقره وافتقاره إلى روح المغامرة. هناك على الأقل رسام وهبه الرسم القدرة على السخرية التي يطعنها الألم من جهات عديدة، هو هذا الساحر الذي ألحق مخلوقات صامتة برعيته المتخيلة.