سيرة الوقت

الزهراني نموذج للمثقف الذي يثق بما يكتب، لذلك يتصرّف بطريقة متوازنة باعتباره كائنا مستفهما لا يزال في حاجة إلى مزيد من الوقت
الاثنين 2020/03/30
باريس ملهمة الأدباء والفنانين (لوحة للفنان غوستاف كايلبوت)

في كل مرة أذهب فيها إلى باريس تكون المدينة هي البطل. فباريس يمكنها أن تتحرّر من صفتها مدينة لتكون امرأة حسناء ترافقك في جولة على ضفاف السين. يمكنك أن ترى باريس بعينيها.

لذلك كانت باريس تتجدّد. ما من مرة زرتها فيها أعادتني إلى المرات السابقة. كانت ذاكرتها أقوى من ذاكرتي دائما. في حي سان جيرمان أحب زقاقا صغيرا يحمل اسم الشاعر أبولنيير. كلما وصلت إليه كنت أتعرّف على الشاعر الفرنسي من أصول بولندية من جديد.

يقع ذلك الشارع خلف كنيسة القديس جيرمان. ليس هناك سوى مقهى. كان ذلك المقهى بالنسبة لي خلاصة حياة. لقد أوهمت نفسي ذات مرة وكنت وحيدا بأني أجلس في انتظار أبولنيير. تمكّن مني شعره غير أنني أدين لمقالاته في النقد الفني بالعرفان. كان وارث بودلير الحقيقي.

في زيارتي الأخيرة لباريس ذهبت إلى ذلك المقهى. غير أنني لم أجلس هناك في انتظار شاعري. لقد جلست من أجل التفكير في حدث واقعي ألهمني الكثير من الأمل على مستوى حياتنا العربية.

لقد اتصلت بي الروائية العراقية عالية ممدوح لتقول لي بأنها خطّطت للقاء يجمعني بمعجب الزهراني. الناقد الأكاديمي الذي سبق لي أن قرأت له الكثير من المقالات التي تتعلّق بالرواية والشعر. قلت لنفسي “هي فرصة للتعرّف على باريس بطريقة مختلفة هذه المرة”. وكان توقّعي حقيقيا حين التقينا بمقهى ومطعم اسمه “ناشرون” تكتظ جدرانه بالكتب. فالرجل الذي درس في باريس كان ممتلئا بعذوبة ونضارة حضوره الشخصي.

لم أكن للأسف أعلم بأنه أصدر رواية بعنوان “رقص” ولم يقع كتابه “سيرة الوقت” بين يديّ. غير أنني بعد لقائي به صرت أتوق إلى قراءتهما. لا لشيء إلاّ لأنهما يشبهانه. فهما صنيعا خيال يديه الذي يتحدّى الواقع، من غير أن ينكرا ارتباطهما بذلك الواقع.

الزهراني نموذج للمثقف الذي يثق بما يكتب، لذلك يتصرّف بطريقة متوازنة باعتباره كائنا مستفهما لا يزال في حاجة إلى مزيد من الوقت. كانت باريس كريمة حين وهبتني فرصة التعرّف على الزهراني.

16