"سوق واقف".. تراث ينتصب شاهدا على روح الماضي وجمال الحاضر

وسط الدوحة مكان كل من يذهب إليه يعود منه مختلفا.
الأحد 2025/06/29
في السوق.. وجوه لا تنسى وحنين لا يشترى

من أهم ميزات دول الخليج هو سعيها إلى الحفاظ على تراثها وماضيها جنبا إلى جنب مع انفتاحها على تحديث مذهل في العمران والبنى والحياة. وتبقى الأماكن القديمة رغم ما يحبطها من تطور عصري محافظة على روحها ورموزا تفتح لكل من يزورها أبواب الماضي باعتزاز وكرم، ومن هذه الأماكن "سوق واقف" في الدوحة.

زرت قطر، أرض الحلم المعلق بين زرقة الخليج وحداثة الفضاءات، أربع مرات. في كل مرة كنت أظنني بلغت أقصى ما تستطيع مدينة أن تمنحه لزائر أتى وفي جيبه قبضة شوق، فإذا بالدوحة تثبت لي أن أماكن القلب، مثل نصوص الحب، لا تقرأ مرة واحدة.

آخر عهدي بها كان في شتاء 2022، زمن كان العالم يصغي، مأخوذا، إلى مونديال تحول في الصحراء إلى عيد لا تطوى راياته. أما المرة الثالثة -ولعلها الأشد رسوخا في الذاكرة- فكانت سنة 2008، حين هبطت مطارها لألتحق بصحيفة “الشرق” تحت جناح الصحافي الأردني المنتصر حتى وهو يرقد الآن في غياب رفيق: منتصر الديسي. بين مكاتب الأخبار، والأدلة القطرية، تعرفت إلى زملاء صاروا، بما أنبتته العشرة من مودة، إخوة في الحبر والدهشة.

ذاكرة الوقوف

في عالم يستبدل الرموز كل يوم بأخرى أحدث، ثمة أماكن تصر على البقاء ثابتة، مثل "سوق واقف"
في عالم يستبدل الرموز كل يوم بأخرى أحدث، ثمة أماكن تصر على البقاء ثابتة، مثل "سوق واقف"

ما يظل يوقظ نبضي ليس ربكة عناوين الصفحة الأولى، ولا صخب المؤتمرات أو الاجتماعات، بل تلك الوشوشات الخافتة التي تحركها الدوحة في قلب القادم من بعيد: بشاشة الوجوه المشرعة، دفء التحايا التي تشبه دعوة بيت إلى بيت، ورائحة هيل تذر في الممرات كأنها تعميد جديد للهواء. أحسست، منذ اللحظة الأولى، أن هذه المدينة تلبس قميصي، تمهد لي سريرا في ذاكرتها، وترفض أن أسير فيها مجرد عابر سبيل.

في قلب الدوحة، وعلى امتداد واد كان يعرف بوادي المشيرب -حيث كانت المياه تنهمر من كثبان واطئة لتصوغ خريطة عفوية من طين وحصى- نشأ سوق واقف. ليس سوقا بالمعنى الذي ألفناه كقائمة أسعار وقوائم بضائع؛ إنه، قبل كل شيء، تمرين على الصبر، قصيدة شيدت شطرها الأول من وهج شمس وشطرها الثاني من عناد الإنسان.

منذ أكثر من قرنين، كان الباعة يقفون على ضفة المجرى في انتظار زبائنهم. لم يكن في المكان سقف سوى السماء، ولا ظل إلا ما يرسمه جسد رجل يشهق بحرارة النهار. ارتبط الاسم -“واقف”- بصورة التاجر الماثل على قدميه، يقايض حاجته بحاجات الآخرين. الوقوف هنا لم يكن وقفة استراحة عابرة؛ كان موقفا وجوديا، إعلان تحد “ها نحن نقف في وجه العوز عطشى إلى لقمة، لكننا لا ننحني.”

ثمة ما هو أبعد من النطق في هذه التسمية. إنه تلخيص لفلسفة عمرانية كاملة: الهندسة، مذاك، تميل إلى التكثيف؛ جدار سميك من الطين يحفظ البرودة، نوافذ خشبية عالية تمرر الضوء بقدر محسوب، أزقة ضيقة تستفز البطء في الخطى فتخلق تلقائيا حميمية بين الغريب والحجر. هنا، يصبح المعمار ذاكرة ملموسة: الطين لا يدهن، لأنه يجب أن يروي. والحجر لا يتجمل بما ليس فيه، لأن الصدق أجمل ملمح في الوجوه والأمكنة سواء.

أن تكون في "سوق واقف" هو أن تضع قدمك في الوقت الآتي، وقلبك في ما انقضى، وعينيك في مرايا اللحظة

في المساء، حين يبرد الطين ويتكثف العطر، تستطيع أن تسمع رنة الخطى القديمة. كأن الذين مروا هنا على امتداد مئتي عام ما زالوا يعبرون الأزقة نفسها: بحارة عائدون من غواصات اللؤلؤ، نساء ينتظرن خلف الشبابيك خبرا عن غائب، وأطفال يركضون خلف حمامات تدربهم على فكرة الحرية.

على طرفي الممرات المنحنية، تعلق علامات الجغرافيا وكأن “واقف” يقيم حفلا عالميا لا ينتهي. هذا بائع البهارات الهندي يصوغ لغته من ألوان الكركم والفلفل، وذلك البنغالي يصف أساوره النحاسية كشمس صغيرة، فيما يقف المغربي وراء قوارير الزيت العطر يسقيك نبرة أطلسية خفيضة. الإيقاع العام أشبه بأوركسترا: أصوات الدعوة، لعلعة المقايضة، ضحكات الأفارقة التي تفر من أعناق العربات الصغيرة.

ومع أن هذا النسيج اللغوي شديد التنويع، إلا أن الهوية القطرية الخاصة تظل مشعة في الخلفية كخط ثابت النبر. فالصيحات تشبه صدى البحارة، ورائحة الهيل المعلقة في الممرات تعيد تركيب لحظات من زمن الغوص، حين كان الرجال يرتدون لجة الماء بحثا عن لؤلؤة قد تعود وقد تفلت، فيما تتمسك النساء على الشاطئ بخيط دعاء لا يرى. ومثلما تستحضر الروائح ماضيا غابت ملامحه، تستدعي معزوفات “المراويس” رقصة عرس جرى قبل أن تهدم البيوت الطينية بحجة التوسع.

لا يمر المسافر هنا لشراء حاجة والرحيل. إنك تعبر السوق كمن يعيد تمثيل دور في مسرحية كتبت بدموع بحر قديم وبعرق أجداد حاربوا العطش. يكفي أن ترى الصبي الصغير وقد اتكأ على ساعده صقر لين الرقبة حاد النظرة، لتفهم كيف تعلم صحارى الخليج أبناءها فن السيادة بلا ضوضاء. الصقر -أعمق من رمز للصيد- هو درس في الحرية المنضبطة: يحلق بعيدا، لكنه يعرف طريق العودة. في مرايا عينيه يلمع سر يقول إن الانتماء يبدأ من نهايات الأجنحة.

أجنحة مسك قديم

المعمار ذاكرة ملموسة
المعمار ذاكرة ملموسة

في أقصى الممر الجنوبي، حيث دكاكين العطور، لا يباع المسك والعود اقتصادا فحسب، بل يباع الشعور نفسه. يدهشك كيف يصبح العطر تمرينا على استدعاء الذاكرة: رشة من “دهن العود” كفيلة بأن تهب عليك ريح سرد من امرأة مرت قربك مساء، فخلفت وراءها دهشة معلقة في الهواء. وتلك الجرة البلورية التي تحوي “مسك الغزال” تشبه -بملمسها اللين- نصا صوفيا عن روح تحب فلا ترى العالم إلا ضوءا.

أبعد قليلا، يقترح عليك بائع اللآلئ تجربة النظر في عين البحر. إنها ليست حصوات ترص على رقاب النساء. إنها سيرة قطر حين كانت تنام على هدير الأمواج وتستيقظ على صوت المحفار. كل لؤلؤة -بمعرفتها الغائرة- تحمل صوت غطاس لم يكن يملك حين يغوص سوى دعاء أهالته زوجته في أذن الصباح. تفكر فجأة: هل كان هؤلاء الرجال يفتشون عن بصيرة أكثر مما يفتشون عن كنز؟ وهل اللآلئ، في جوهرها، إلا اختصار لرحلة الإنسان نحو نور داخلي؟

السوق، إذا، ليس متحفا تراثيا يعرض الماضي كقطعة محنطة. إنه مختبر فهم داخلي: الطعام هنا، مثلا، ليس إشباعا بيولوجيا. فحين تبدأ يومك بكوب “كرك” حلو يشبه تواطؤا بين الهند والخليج، ثم تختتم مسارك بطبق “مندي” مدفون في رماد البهارات، تكون قد عبرت أكثر من جغرافيا واحدة في ساعة واحدة. وفي مطعم “بندر عدن”، يطهو اليمنيون رغيف الذكريات على حجر سخنته الحرب أكثر مما سخنته النار. أما “الأعظمية” العراقي، فيتبنى مهمة لملمة بغداد التي تفرقت في المنافي، ويعيد ترتيبها في قدر “دولمة” تفور رائحة حنين على هيئة نعناع وماء ورد.

الفنادق التي تطوق السوق ليست مجرد مساكن عابرة. هناك، في “النجادة” أو “الوادي”، يصير النزول طقسا وجوديا: المصابيح النحاسية تطري على العتمة، والأقمشة المطرزة داخل الغرف تهدهد الضيف كأغنية أم لابنها العائد. لكأن العمارة هنا تدرس درسا بسيطا: “الفخامة ليست بهرجة، بل عمق إحساس بالبيت.”

منذ أكثر من قرنين كان الباعة يقفون على ضفة المجرى في انتظار زبائنهم، لم يكن في المكان سقف سوى السماء

وحين يشتعل أول مصباح تراثي في المغيب، ينقلب السوق إلى قلب ثان للدوحة. تنبض الأزقة دفعة واحدة، وترتفع نغمة عود من مقهى شعبي كأنها تدعو خطاك إلى رقصة هادئة، أكثر شبها بصلاة تأملية على خشب عتيق. عند تلك اللحظة، تفهم أن الزمن لا يقاس بالثواني بل بطبقات المشاعر التي تطبق عليك مثل جناح رقيق.

عند منعطف، ربما يدعى منعطف الروح، يتدخل “سوق واقف” في فلسفتك الشخصية. يقول لك: في عالم يستبدل الرموز كل يوم بأخرى أحدث، ثمة أماكن تصر على البقاء ثابتة، لا لأنها عاجزة عن التغيير، بل لأنها تشعر -قوة لا تقاوم- أن أحدا يجب أن يحرس الذاكرة. ستغادر أنت غدا أو بعد عام، وسيتقلب النفط والأسواق والأسعار، لكن جدارا واحدا من الطين إذا سقط، سيتسرب معه شيء لا يعوض من روح المدينة.

هناك، ونحن نتأمل رجل السبعين يجر عربته في بطء صبور، تتجلى حكمة الوقوف التي وهبت المكان اسمه: الوقوف ليس مرادفا للجمود، بل هو قوة تثبيت الصورة حين تميل إلى الانزلاق من بين الأصابع. أن تقف يعني أن تقول للعالم “إني حاضر، شاهد، أمسك بطرف الحكاية لكيلا تضل.”

وحين يمضي الليل في السوق يزدحم الهواء بأصداء خطى ولى أصحابها منذ عشرات السنين. تتخيل أنهم يأتون كل مساء ليطمئنوا أن أحدا ما زال يتذكر أسماءهم، وأن أصوات المراويس لم تخرس. فتهمس لنفسك “الذاكرة لا تحفظ في الكتب وحدها، بل في العطر الذي يعبر، في درج خشبي لم يغلق، وفي صقر يمدد جناحيه على ساعد طفل يتعلم الشموخ.”

أكثر حبا للبساطة

السوق مختبر فهم داخلي
السوق مختبر فهم داخلي

يغيّرك “سوق واقف” مهما ظننت أن للمدن قدرة محدودة على التأثير. تعود منه وقد ازداد داخلك اتزان السلحفاة: بطيء بما يكفي لتلاحظ وهج التفاصيل، سريع بما يكفي لتلحق قطار حياة لا يرحم. تتعلم أن البساطة ليست عجزا عن الارتفاع، بل اختيار واع للتماس مع الأرض. وتدرك أن ثمة أماكن، إذا جرى تحديثها حتى آخر مسمار، ماتت، كما تموت شجرة حين تطلق جذورها في الهواء.

أن تكون في “سوق واقف” هو أن تضع قدمك في الوقت الآتي، وقلبك في ما انقضى، وعينيك في مرايا اللحظة. هو أن تعيد فهم الحداثة على أنها حوار مع الماضي لا قطيعة معه، وأن تذوب في داخلك هذا السؤال القديم الجديد: كيف نتمدن من غير أن نفقد طعم الماء الذي شربه أجدادنا من كف واد صغير؟

ربما لهذا كله، حين أغادر الدوحة وأدير ظهري للطريق المؤدي إلى المطار، أشعر بأن شيئا من طين السوق يلتصق بحذائي، وبأن عطرا خفيفا -ما أدري أهو مسك أم هيل- يسكن ياقة القميص طويلا. فأفهم أن “واقف” لا يأذن لك بالرحيل تماما: يترك فيك بذرة صغيرة، فإذا جفت أيامك استنبتت الحنين.

“سوق واقف” ليس مشهدا أثريا للتصوير، بل قلب نابض في جسد مدينة تعيد تشكيل نفسها كل يوم. إنه وعد صامت بأن التراث لا يموت إذا تنفس ببطء. وأن الأماكن ليست طينا وجدرانا فقط، بل هي أرواح ووجوه ورغبات معلقة في الهواء.

“سوق واقف”، إذًا، ليس مكانا نذهب إليه، بل نعود منه مختلفين؛ نعود أكثر فهما للزمن، وأكثر حبا للبساطة، وأكثر يقينا أن بعض الأماكن لا يجب أن تتغير، لأنها ببساطة تحرس أرواحنا.

أن تكون في “سوق واقف”، يعني أن تضع قدمك في التاريخ، وقلبك في الحاضر، وعينيك في المستقبل. هنا، لا نشتري فقط، بل نعيد تشكيل وعينا. نجرب الانتماء، ونمارس الحنين، ونؤكد أن هناك أماكن لا يجب أن تتغير، لأنها ببساطة، تحرس الروح.

في عالم يختزل الأشياء بسرعة كبسة زر، يبقى هذا السوق درس ما هو باق. وبقاؤه ليس في حجارة أو أعمدة أو زخارف، بل في فكرة أبسط من كل ذلك. وسوق واقف، في طينه وعطره، مرآة لروح نتقاسمها جميعا، كل بلغته، وكل بجناحه، وكل بحكايته.

10