سوق العمل لا تحتاج قوافل من الشباب بمؤهلات عالية

أنتجت النظرة الدونية للمهن الخدمية والتنموية في المجتمعات العربية شريحة واسعة من العاطلين عن العمل، من ضمنهم فئة كبيرة من أصحاب المؤهلات الجامعية الذين لا يحتاجهم سوق العمل، بينما توجد قطاعات أخرى بحاجة إلى عاملين مهنيين لا خرّيجي جامعات.
تونس – يقول إبراهيم وهو ينفث الدخان في مقهى وسط العاصمة تونس “أخذنا ما يسمّى باستراحة مقاتل. نأتي هنا لنتحدث عن مأساة العمل. جميعنا شباب عاطلون ولا أحد يفكر بنا”.
ويعتبر بعض الشباب أن المقاهي هي المتنفس الوحيد للهروب من عناء العمل وضغوطه، خصوصا مع فرض قيود السفر إلى بعض الدول بسبب تفشي فايروس كورونا، لكن الكثير منهم لا يفكّر في أن هذه المقاهي وغيرها من المطاعم وأماكن الترفيه الأخرى تحتاج إلى عدد كبير من العاملين.
ويلجأ عدد من خريجي الجامعات والمعاهد حديثا إلى العمل في مهن متواضعة لا تلبي طموحاتهم، ويعتبرونها مرحلة مؤقتة إلى حين الحصول على فرصة عمل في المجال الذي درسوه، أو الحصول على وظيفة إدارية باعتبارهم من أصحاب المؤهلات الجامعية.
مقبول خارج البلاد
60 في المئة
من الطلاب يدرسون تخصصات غير مطلوبة في سوق العمل السعودية
المفارقة أن هناك الكثير من الشباب الذين لا يقبلون العمل في مهن يدوية أو خدمية، يسافرون خارج بلادهم بحثا عن عمل لا يضع شروطا ويقبَل بأي عمل مثل عامل خدمات في مطعم أو مقهى أو رعاية صحية أو حتى التنظيف، في حين أنهم لا يقبلون مطلقا العمل بهذه المهن في بلدانهم بحجة “أن نظرة المجتمع لا تقبل العمل في مهن معيّنة”، وقد ترتب على ذلك بروز نسب مرتفعة من البطالة بين الشباب من المتعلمين ومن غير المتعلمين أيضا.
ويدفع بعض الشباب أحيانا ضريبة خيار الأهل الذين يرسمون طريقا محددا لأولادهم ويأملون بعد نجاحهم وتخرجهم في الجامعات في الالتحاق بفرص عمل تتناسب مع تخصصاتهم التي درسوها، بحيث تعينهم تلك الوظائف على متابعة مشوار حياتهم وتكوين أسرهم. لكن في الكثير من الأحيان يُصدم الخريجون بما يسمّى “إغلاق التخصصات” التي درسوها لسنوات طويلة. ويبقى الكثير منهم ينتظرون الالتحاق بوظائف تتناسب مع تخصصاتهم من دون البحث عن فرص عمل أخرى تمكنهم من تأمين مبالغ مالية تسهم في تحسين أوضاعهم، فيما يتجه خريجون آخرون للبحث عن فرص عمل بعيدة عن تخصصاتهم التي درسوها ليعملوا فيها.
واليوم مع تفشي البطالة والتدهور الاقتصادي في الكثير من دول العالم ومنها العربية، تبدو الحاجة ماسة إلى تغيير رؤية الناس والمجتمعات العربية للمهن والأشغال اليدوية والخدمية، وخصوصا الأهل الذين لهم دور كبير في التدخل باختيار ما سوف يدرسه أولادهم، حيث مازالت ثقافة العيب متجذرة عندهم ما يحول دون إقبال الشباب على العمل في البعض من المهن، والنتيجة ارتفاع نسبة البطالة وكثرة الخريجين الجامعيين الذين لا تتناسب مؤهلاتهم مع سوق العمل.
خيار الأهل

يقول إبراهيم إن والده كان مصرا في الثانوية العامة، على أن يقوم باختيار التخصص الذي سوف يدرسه في الجامعة، حتى لو كان الثمن التحاقه بطابور العاطلين عن العمل.
وأضاف أنه درس الهندسة المدنية وتخرج منذ ثلاثة أعوام، لكنه مازال يكافح لإيجاد فرصة عمل مناسبة، في حين أن صديقه الذي اكتفى بالقيام بتدريب مهني كفني كهرباء، بدأ العمل بشكل مستقل لعدة جهات مباشرة بعد انتهاء التدريب الذي استمر عامين، ولديه مورد مادي لا بأس به، ويفكر حاليا في الزواج.
ومشكلة إبراهيم مماثلة للكثير من الشباب، لها جذورها المتمثلة في زيادة عدد خريجي المراحل التعليمية المختلفة، حيث تبيّن عدم التوازن بين مخرجات التعليم والتدريب واحتياجات التنمية.
مخرجات التعليم الحالية لا تتلاءم مع سوق العمل، وهذه مسؤولية تتحملها المؤسسات التعليمية والمؤسسات التنموية
وأصبح الخريجون يواجهون مشكلات البطالة أو القبول بعمل أدنى من مستوى تحصيلهم الدراسي أو بعمل لا يتناسب مع تخصصاتهم ومؤهلاتهم، الأمر الذي أفرز ما يعرف بـ”بطالة المثقفين” التي نتجت عنها إشكاليات ذات تأثيرات عميقة على البنية الاجتماعية، بالإضافة إلى عدم توافر الموارد البشرية الوطنية القادرة على سدّ احتياجات سوق العمل من المهن الحرفية، ما يعني الاضطرار إلى الاستقدام والاستعانة بأعداد كبيرة من الأيدي العاملة الأجنبية.
ولعل ما عزز هذا الاتجاه ما لوحظ من فجوة هائلة بين مخرجات التعليم وسوق العمل، حيث أن نظاما تعليميا تقليديا لن يتمكن من إنتاج اقتصاد قادر على المنافسة لا يعتد فيه بالخبرة العلمية والعملية في العديد من الميادين الحرفية والمهنية.
وتشير الدراسات إلى أن 90 في المئة من مخرجات التعليم الحالية لا تتلاءم مع سوق العمل، وهذه مسؤولية يتحمّلها الجميع سواء المؤسسات التعليمية في تعليمها الفني أو المهني أو العام، أو المؤسسات التنموية التي تضع الخطط الاستراتيجية بشكل عام، والتخطيط المتعلق بسوق العمل بشكل خاص أو حتى الأهل.
ويعدّ سوق العمل المؤسسة التنظيمية الاقتصادية التي تتحقق فيها عملية التفاعل بين عرض العمل والطلب على العمل، حيث يساهم هذا السوق بشكل واضح في توزيع الموارد البشرية بين المنشآت والصناعات والمهن المختلفة عند معدلات أجر محددة، كما يساهم في تحديد مستويات التشغيل والبطالة والأجور والهجرة والتعليم.
وبحسب خبراء اقتصاد، فإن هذا السوق بدأ يشكو صعوبة في تحقيق التوافق أو المواءمة بين مخرجات النظام التعليمي ومتطلبات سوق العمل، وتكاد تتحول هذه المشكلة إلى ظاهرة عالمية، فلم تعد تقتصر على اقتصاد بعينه أو مجموعة اقتصادية دون غيرها، رغم تفاوت حدتها وأبعادها بحسب التفاوت في قوة أو ضعف الاقتصاد، وفي طبيعة السياسات الاقتصادية المستخدمة ومستويات التعليم السائدة، وتأثر النمو الاقتصادي المتحقق والشوط الذي قطعته عملية التنمية في مراحلها المختلفة.
نظرة دونية
لكن المشكلة غالبا ما تتعلق بالشباب أنفسهم الذين قد يختارون البطالة على ممارسة مهن يدوية أساسية، لأن المجتمع ينظر إلى أولئك الشباب الذين يشتغلون بالمهن الحرفية والأعمال اليدوية نظرة دونية، كما أن الفتيات لا يرغبن في الارتباط بشاب يعمل بمثل هذه المهن ويفضلن الارتباط بشاب موظف وذي مكانة مرموقة، علاوة على ضعف العائد المادي للمهن اليدوية وارتفاع مستوى الفرد.
وهنا تقع على عاتق الأهل مسؤولية إعادة النظر في التفكير بنوعية التخصصات المطلوبة، ويحتاج هذا الأمر إلى تشجيع من الحكومات وصرف الحوافز والمكافآت التشجيعية للشباب الراغبين في العمل في هذا المجال، وتوفير أماكن لهم.
كما أن جزءا من المشكلة تتحمّلها الدولة نتيجة غياب رؤيتها للتنمية الشاملة بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والبيئية وغياب التوجهات الواضحة للدولة في مجال الاحتياجات التنموية للدولة، فإذا كانت للدولة رؤية واضحة حول خططها فإنها تستطيع أن تحدد التخصصات التي تحتاجها هذه الخطة، وبالتالي تصبح لديها رؤية واضحة حول احتياجاتها من مخرجات التعليم حسب الكم والنوع، ولكن هذا لا يكفي إذا لم ترافق ذلك حملة توعية تقودها الدولة بمؤسساتها المختلفة بتوعية الطلاب والأهالي على حد سواء: باحتياجاتها من التخصصات ومساهمتها في خلق ثقافة تقوم على اختيار التخصص بما يتناسب وحاجات البلد من خلال الربط الفعلي والواقعي لمخرجات التعليم بسوق العمل، ويكون واضحا لدى الجميع أن هذه هي التخصصات المطلوبة خلال الفترة القادمة والتي يمكن أن توفر فرص عمل للطلبة.
دراسة سعودية:
خمسة قطاعات ستوفر 86 في المئة من فرص العمل بحلول عام 2022 وأن 60 في المئة من الطلاب يدرسون تخصصات غير مطلوبة في سوق العمل
ومن أكثر القطاعات التي تحتاج إلى طاقات الشباب، قطاع صناعة الملابس، وخدمات الفنادق والمطاعم، وتجميع الأجهزة والآلات الكهربائية، وصناعة المنتجات الخشبية والمعدنية، ومهن الخدمات الأخرى، وقطاع المبيعات بالإضافة إلى قطاع الزراعة.
ويشعر وليد (32 عاما) بالارتياح لاختياره منذ سن مبكرة الاتجاه نحو العمل في الطهي، إذ بدأ منذ عمر 16 عاما بالعمل في مطعم صغير، لأنه لم يكن يجد في نفسه القدرة أو الرغبة في متابعة الدراسة، رغم شعور أهله بالإحباط من تركه الدراسة.
وأضاف وليد، أنه أدرك جيدا أنه لم يكن سينجح في المجال العلمي، لذلك فضّل الاندماج في سوق العمل مباشرة واكتساب مهنة يستطيع من خلالها تأمين مصدر رزقه، بدلا من إضاعة الوقت في الدراسة والفشل بها.
وتابع وليد، الذي يعمل كطاه في أحد مطاعم دمشق، أن ظروف الحرب أثبتت صحة وجهة نظره، فالكثيرون فقدوا أعمالهم أو هاجروا البلاد لعدم وجود أي خيار آخر، في حين أنه لا يزال يستطيع تأمين معيشته، ويعتبر أنه أفضل حالا من الكثير من المتعلمين دون عمل.
ويقترح أن يتدرّب الشاب الذي لا يجد في نفسه ميلا للدراسة، منذ صغره على العمل المهني خاصة الذين لم يصلوا إلى المرحلة الإعدادية، وأن يبدأ السلم خطوة خطوة، فهذا ليس عيبا والعمل المهني شيء يشرّف أي إنسان.
وأشار إلى أن العمل المهني يدرّ عائدا ماديا كبيرا على الشباب لأن العمل الخاص الآن أصبح سيد الموقف في شتى الميادين، ويتيح للشباب تنمية أعمالهم الصغيرة ومهنهم، وافتتاح مشاريعهم وشركاتهم وإدارتها بكفاءة لاسيما عندما يبدأ الشاب من الصفر ويعرف كل كبيرة وصغيرة عن مهنته.
حملات توعية
هناك ثقافة سائدة لدى بعض المجتمعات العربية كالخليجية مثلا تقر بأن العمل المهني غير مقبول اجتماعيا وأنه من العيب أن يخوض الأبناء في العمل المهني والخدمات، وهذه النظرة يجب أن تتغير عبر حملات توعية مكثفة ودعم الشباب في هذا الاتجاه وتشجيعهم وتحفيزهم، لأن العمل المهني له إيجابيات كثيرة، ففيه إنتاج وتسويق وتنمية اقتصادية.
وخلصت دراسة حديثة تناولت تقييم احتياجات سوق العمل السعودي إلى أن خمسة قطاعات ستوفر 86 في المئة من فرص العمل بحلول عام 2022 وأن 60 في المئة من الطلاب يدرسون تخصصات غير مطلوبة في سوق العمل، فيما يدرس 40 في المئة من الطلاب الجامعيين خمسة تخصصات.
وبيّنت الدراسة الصادرة عن أكاديمية مسك أنها قادرة على تأهيل الخريجين لتولي 25 وظيفة ستكون ذات أولوية في الفترة المقبلة.
اقرأ أيضا:
واستهدفت الدراسة تحديد القطاعات الاقتصادية والملفات الوظيفية والمهارات الواعدة التي تحمل إمكانيات واعدة لقوى العمل السعودية في المستقبل، وتوفير المزيد من المعلومات للباحثين عن عمل وأصحاب العمل وهيئات التدريب حول القطاعات الرئيسية والأدوار الوظيفية التي تعد بتوفير فرص للقوى العاملة في المملكة مستقبلا، إلى جانب تعريفها بالمهارات والمؤهلات التي تتطلبها الأدوار الرئيسية في هذه القطاعات.
وسلّط التقرير الضوء على خمسة قطاعات تم اختيارها من بين القطاعات الاقتصادية الرئيسة البالغ عددها 18 قطاعا، استنادا إلى أن هذه القطاعات الخمسة هي الأفضل من حيث الفرص التي تقدمها وفق مجموعة من العوامل بما في ذلك درجة مساهمتها في الناتج المحلى ومعدلات النمو في الأجور، ومستوى مساهمتها المتوقعة في توفير فرص عمل جديدة بالإضافة إلى نطاق انتشارها الجغرافي. وهذه القطاعات هي: المعلومات والاتصالات، التصنيع، النقل والتخزين والمال والتأمين، والبيع بالتجزئة والبيع بالجملة.
وبيّنت الدراسة أن تلك القطاعات الخمسة مجتمعة تسهم بنحو 74 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي كما تساهم بنسبة 49 في المئة من إجمالي القوى العاملة في المملكة ومن المتوقع أن تبلغ مساهمتها في توفير فرص عمل جديدة نحو 86 في المئة.
وقالت الدراسة إنه يجب على الطلاب الالتحاق بالتخصصات التي ستسمح لهم بالحصول على فرص عمل في المجالات المهنية التي تشهد نموا مرتفعا.