سمير فرج.. لواء مصري يمحو أوهام عداء العسكريين للإبداع

العسكرية المصرية كانت ولا تزال ولادة بالطاقات الثقافية واللواء سمير فرج يعد نموذجا حيا على الجنرال المثقف المؤمن بالكلمة كطاقة نور وسط العتمة.
الثلاثاء 2021/04/06
اللواء سمير فرج ترك بصماته العديدة على الإبداع في مصر

كل عسكريّ في نظر البعض هو شخص منغلق، صامت، مُعاد للثقافة ومتعال على الإبداع. يتصور الفكر والقراءة والكتابة أعداء دائمين، لأنها تفتح عيون الناس على الحرية. كلما استدعى كتبة التيار الديني نماذج للعسكريين يلجأون إلى تصدير سير أعداء الثقافة والإبداع من أمثال التشيلي أوغستو بينوشيه والإسباني فرانثيسكو فرانكو والأوغندي عيدي أمين فضلا عن الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر. ويبقى التاريخ دوما خصما عنيدا يُصر كل حين أن يرد عليهم بنماذج مُغايرة تهيم بالثقافة، بل وتنخرط فيها مثل الجنرال والرئيس الفرنسي شارل ديغول والمصري ثروت عكاشة الذي شغل منصب وزير الثقافة خلال عهد عبدالناصر وترك بصمات عديدة على الإبداع في مصر لا تزال شاهدة عليه.

العسكرية المصرية كانت ولا تزال ولادة بالطاقات الثقافية النادرة. واللواء سمير فرج يعد نموذجا حيا على الجنرال المثقف، الكاتب والقارئ والمؤمن بالكلمة كطاقة نور وسط العتمة. 

ينشر مقالاته في الصحف المصرية كما لو كان ولد كاتبا، يطلع ويناقش ويحاضر ويحكي. على مدار مشوار حياته الممتد بين العمل العسكري والمدني استطاع بنعوة نفي عداء العسكريين للثقافة، وليس أدل على ذلك من أن سيرة حياته التي صدرت مؤخرا عن هيئة الكتاب المصرية حملت عنوان “وداعا للسلاح” كأنه يؤكد أن صراعات المستقبل تستلزم فكرا وثقافة ومعرفة أكثر مما تحتاج للسلاح التقليدي. 

أمام شارون وجهاً لوجه

حياة اللواء فرج المهنية تحفل بنجاحات لافتة سواء في مجال خدمته الرسمية العسكرية أو المدنية، كمسؤوليته عن إدارة الشؤون المعنوية بالقوات المسلحة، وإدارته لدار الأوبرا المصرية وتوليه منصب محافظ الأقصر. (الصور من فيسبوك)
حياة اللواء فرج المهنية تحفل بنجاحات لافتة سواء في مجال خدمته الرسمية العسكرية أو المدنية (الصور من فيسبوك) 

المُثير في شخصية فرج أنه حقق نجاحات لافتة في مجال خدمته الرسمية في العمل العسكري والمدني. ففي كل موقع تولاه ترك بصمات وإنجازات وشهود نجاح، بدءا من مسؤوليته عن إدارة الشؤون المعنوية بالقوات المسلحة لنحو سبع سنوات، مرورا بإدارة دار الأوبرا المصرية، وحتى العمل كمحافظ للأقصر المنطقة الهامة في جنوب مصر والتي تحتفظ بكثير من الآثار والمعابد الفرعونية وتحولت إلى مزار مفتوح للسائحين من أنحاء العالم.

ولد فرج في مدينة بورسعيد، وتخرج من الكلية الحربية عام 1963 في سلاح المشاة، وشارك في حرب اليمن وفي حربي الاستنزاف وأكتوبر ضد إسرائيل، ثم دفعه الاجتهاد والدأب إلى الالتحاق بكلية كمبرلي الملكية لأركان الحرب بإنجلترا سنة 1974، وكان تفوقه في الدراسة سببا ليُعيّن كأول مدرس بالكلية من خارج حلف الناتو. 

ولم يكن غريبا أن يتم اختياره سنة 1975 من قبل الجيش المصري وهو برتبة رائد ليمثله في مناظرة تاريخية بين مصر وإسرائيل حول الحرب بينهما نظمتها “بي.بي.سي” وأذيعت على التلفزيون البريطاني. كان ذلك الحدث إشارة لافتة لما يتمتع به الرجل من قدرة على النقاش والإقناع والحديث بمنطق ودراية، حيث انتهت المناظرة لصالح ممثل جيش مصر بثمانية نقاط مقابل أربع للجنرال أرييل شارون ممثل جيش إسرائيل.

رؤية إستراتيجية

اللواء فرج يعتبر أول مدرّس من خارج حلف الناتو يعيّن في كلية كمبرلي الملكية لأركان الحرب، وقد كانت دراسته فيها وخبراته الميدانية كضابط مشاة ومشاركته في حرب اليمن وحربي الاستنزاف وأكتوبر سببا لتعيينه

بعدها صار اسم فرج مطروحا كواحد من كوادر القوات المسلحة المصرية المؤهلة للتواصل والتعامل مع الإعلام العالمي. وكان قيامه بالإلتحاق بكلية الآداب قسم التاريخ بجامعة عين شمس في القاهرة وحصوله على الليسانس عام 1979، ثم دبلوم إدارة الأعمال من الولايات المتحدة، ثُم الدكتوراة التي حملت عنوان “دور الإعلام في الدفاع عن الأمن القومي المصري” عاملا هاما في إثقال خبراته بما يؤهله للقيام بمهمة التواصل بين القوات المسلحة المصرية والعالم.

عمل بالفعل ملحقا عسكريا لمصر في تركيا خلال الفترة من 1990 إلى 1993 قبل أن يتولى رسميا إدارة الشؤون المعنوية للقوات المسلحة شهدت خلالها تطويرا مؤسسيا لمستوى تواصل المؤسسة العريقة مع مختلف وسائل الإعلام في العالم.

 في ذلك الوقت تم إنشاء مركز إعلامي متخصص يعتمد على التقنيات العالمية، وأقيمت مطبعة خاصة للقوات المسلحة لطباعة صحف المؤسسة منها الجريدة الخاصة، وتطوير قدرات الإعلاميين المتابعين للمؤسسة من خلال دورات تدريبية متخصصة في أكاديمية ناصر العسكرية. 

حاز فرج على أوسمة عسكرية عديدة أبرزها وسام الجمهورية المصرية من الدرجة الثانية ونوط الواجب الوطني وميدالية القدوة الحسنة. ونجح على مدى فترة خدمته العسكرية في إقامة جسور تواصل قوية مع الأوساط الثقافية والفنية المصرية والعربية ما أهله لأول موقع مدني له بعد ذلك وهو مدير دار الأوبرا المصرية كما سلف.

كان لإنجازاته المتتالية في ذلك الوقت أثر بارز في دعم دور الدولة في الارتقاء بالفنون والثقافة كإحدى منصات مواجهة الإرهاب وأبرزها إعادة افتتاح معهد الموسيقى العربية بعد عقود طويلة من الإغلاق وتطوير متحف الأوبرا وإنشاء متحف خاص لمقتنيات الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب وإحياء حفلات أوبرا “عايدة”.

أما الأقصر وهي المدينة السياحية الهامة التي تعرضت لضربة موجعة بسبب مذبحة نفذتها الجماعات الإرهابية لمجموعة من السياح في أكتوبر 1997، فحين تولى فرج مهمة إدارتها خطط ونفذ عددا من المشروعات الجيدة لتطوير الطرق والساحات وإعادة تنظيم الأحياء وإنشاء مكتبات متخصصة في علوم المصريات بما يخدم السياحة، ومهّد لتحويل المدينة إلى محافظة مصرية عام 2009 بعد أن كانت تابعة لمحافظة قنا المجاورة لها.

خلال هذه المسيرة الحافلة عرف الناس فرج كاتبا دوريا في كثير من المطبوعات المصرية الحكومية والخاصة، كما ارتبط بعلاقات صداقة مع كبار الكتاب والإعلاميين وظل محل تقدير وثقة المجتمع المصري وأحد رموز التأثير في الرأي العام من خلال مقالات تحمل تحليلا للسياسات الإستراتيجية وتُعبر عن توجهات المؤسسة الكبرى بهدوء.

وكان القبول العام الذي يحظى به على المستويين العسكري والمدني دافعا ليصبح محل اهتمام بعض الدوائر الغربية الراغبة في التعرف على التوجهات المصرية في كثير من القضايا السياسية والعسكرية بعد ثورة 30 يونيو 2013 التي أسقطت حكم جماعة الإخوان بعد عام واحد فقط.

كان لإنجازاته المتتالية في ذلك الوقت أثر بارز في دعم دور الدولة في الارتقاء بالفنون والثقافة كإحدى منصات مواجهة الإرهاب

لم يكن غريبا أن يلتقي وقتها بمادلين أولبرايت المكلفة من قبل الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما بالإجابة عن سؤال إن كان ما حدث في 30 يونيو في مصر ثورة شعبية أم انقلاب عسكري، وأنها اطلعت على دراسة قدمها وزير الدفاع آنذاك عبدالفتاح السيسي خلال دراسته في كلية الدفاع الوطني بالولايات المتحدة بعنوان “الديمقراطية في دول العالم الثالث” تعرفت فيها على جوانب من فكره كرجل إصلاحي وليس قائدا لانقلاب.

وأثبتت التطورات صدق توقعات فرج في كثير من المواقف اعتمادا على دراية ووعي كاملين بما يحدث في العالم. فكان مثلا ممّن يرون بخلاف الكثير من الإعلاميين المعروفين في مصر أن تولي جو بايدن رئاسة الولايات المتحدة لن تكون فيه خسارة للعلاقات المصرية – الأميركية. وكتب عدة مقالات في جريدة الأهرام الرسمية أشار فيها إلى أن علاقات البلدين علاقات مؤسسية لا فردية، وأن الشراكة الإستراتيجية سوف تبقى دائمة لا تتغير بتغير الإدارات، ويبدو أن صحة رؤيته صدقت مع موافقة إدارة بايدن في فبراير الماضي على صفقة أسلحة متطورة لمصر عبارة عن لنشات صواريخ هجومية لتأمين سواحل مصر. 

واستدل فرج على تصوره بأنه سبق للرئيس أوباما تجميد صفقة مروحيات أباتشي لمصر، إلا أن البنتاغون ألغى قراره وفقا لما يخوله له الدستور من صلاحيات معتبراً أن القرار يضر بالأمن القومي الأميركي.

قال فرج إن إدارة بايدن، في ما يخص مصر، ليست نسخة مُكررة من أوباما، ودلّل على ذلك باجتماع الأخير مع أعضاء إدارته بعد أحداث يناير 2011 والتي نادى فيها برحيل حسني مبارك، وكان نائبه بايدن حينها معارضاً لذلك، مؤكدا أن الحفاظ على استقرار مصر ضرورة لاستقرار منطقة الشرق الأوسط ومن مصلحة واشنطن. 

قراءة مستقبلية

أشار فرج مبكراً إلى أن مصر سوف تصبح أكبر الدول إنتاجا للغاز الطبيعي في المنطقة وأنها ستحقق الاكتفاء الذاتي منه نتيجة حقول البحر المتوسط الجديدة، وهو ما تحقق بالفعل في ما بعد. اللافت هنا الربط بين سياسات الدولة المصرية في الاهتمام بترسيم الحدود البحرية مع قبرص واليونان وإسرائيل وزيادة الكفاءة القتالية للقوات البحرية من خلال حاملات الطائرات والغواصات والمقاتلات الحديثة.

وتعد النقطة الأكثر إيجابية في شخصيته أنه بات يمثل بالنسبة إلى الرأي العام منصة للتعرف على آراء وتوجهات المؤسسة العسكرية المصرية بشأن الكثير من الأمور، إذ يعد من القلائل الذين يُسمح لهم بالحديث في الشؤون العسكرية والأمنية الدقيقة، باعتباره محاضرا وخبيرا إستراتيجيا حقيقيا يعرف حدود المسموح والممنوع من التصورات والرؤى.

وهو ممّن يرون أن أفضل ما استطاع النظام المصري تحقيقه على المستوى الإستراتيجي هو تنويع مصادر السلاح، ولم يقتصر على دولة بعينها، وانفتح على الشرق والغرب، ونجح في اقرار تلك السياسة بحكمة ووعي، الأمر الذي سوف تعي أهميته الأجيال القادمة.

فرج قادر على مد حبال الوصل بين المؤسسة العسكرية وعالم الإبداع، وهو نموذج تحتاج إليه الدول العربية في نضالها للحفاظ على استقرارها وأمنها، لأنه يزيل الفجوة المتخيلة بين العسكري والمدني، ويهيء الأجواء للمزيد من التفاهم
فرج قادر على مد حبال الوصل بين المؤسسة العسكرية وعالم الإبداع، وهو نموذج تحتاج إليه الدول العربية في نضالها للحفاظ على استقرارها وأمنها

على مستوى العلاقات الإقليمية له موقف يعبر عن وجهة نظر مصر في التعامل مع الأزمات والتحديات الآنية، حيث كرر أن القاهرة قد تلجأ للدخول في ما يُسمى بـ”حرب الضرورة” في ليبيا دفاعا عن أمنها القومي.

وهو يعتقد أن سعي تركيا للتقارب مع مصر يعكس شعورا واضحا لديها بالعزلة الدولية بعد اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع اليونان والتدهور الذي يواجهه الاقتصاد التركي وعدم الحصول على المكاسب التي كانت تتوقعها.

يعكس فرج حالة الجنرال المثقف والإعلامي القادر على مد حبال الوصل بين المؤسسة العسكرية وعالم الإبداع، وهو نموذج تحتاج إليه الدول العربية في نضالها للحفاظ على استقرارها وأمنها، لأنه يزيل الفجوة المتخيلة بين العسكري والمدني، ويهيء الأجواء لمزيد من التفاهم. فهو حين يتحدّث يحرص على شرح الرؤى المصرية بانفتاح ويحافظ في الوقت ذاته على انضباطه وتصوراته وكأنه لم يخلع البزة العسكرية بعد.

13