سمنة المصريين عرض مرضي لأزمات اجتماعية واقتصادية

القاهرة - لم تعد البدانة فقط مجرد عَرض للنهم والنظام الغذائي وانتشار الأطعمة السريعة وتغير ظروف الحياة التي قلصت كمية النشاط البدني والحركة فقط، بل هي في المجتمعات المأزومة، عرض لمشاكل اجتماعية ونفسية واقتصادية وسياسية، وأحد أسباب سوء التغذية وارتفاع نسبة الفقر؛ وفي المجتمع المصري مثال على ذلك حيث تسجل السمنة نسبة كبيرة هي 63.5 بالمئة.
في المخيال الشعبي ارتبطت السمنة بالثراء، حيث ينظر لبطون البدناء المترهلة على أنها دليل على العز والثراء، إلا أن تلك الصورة تغيرت وأضحى تدلي البطون دليلا على المزيد من الفقر، لأنها مملوءة بسعرات حرارية متوفرة في الأطعمة الرخيصة.
وجاء الكشف عن النسبة المرتفعة في سياق أثار الجدل، وذلك حين قال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إنه لاحظ انتشار زيادة الوزن بين المصريين، منتقدا الأمر، طبقا لما أظهرته نتائج المسح الطبي لمبادرة 100 مليون صحة، والتي تحمل مؤشرا كبيرا على أن أصحاب الأوزان الطبيعية يقدرون بـ25 بالمئة، والباقي يعاني من السمنة وزيادة الوزن.
ووجه الرئيس المصري سؤالا إلى المواطنين “إحنا بنعمل في نفسنا كده ليه؟”، مشيرا إلى أنه يرى أحيانا أشخاصا بدناء فيسأل نفسه “ايه الناس دي؟ الناس مش واخدة بالها من نفسها ليه؟ وأزاي بتقدر تمشي كده؟”.
ورغم رفض الكثيرين للطريقة التي تحدث بها الرئيس المصري، والتي انتقدها البعض وسيّسها البعض الآخر، إلا أن الأمر لا يخلو من جدية وخطورة ومن نقد تتحمل الوزر الأكبر منه الحكومة، في بلد يعيش السواد الأعظم من سكانه بغذاء يسكت المعدة دون أن يغذي الجسد، وحيث تؤثر هذه الظاهرة وتداعياتها على المجتمع وتنميته ونموه.
بدانة سياسية
ذكرت نتائج دراسة نشرها باحثون متخصصون في مجلة “نيو إنغلاند الطبية”، أن 19 مليون مصري يعانون من السمنة المفرطة، ما يشكل نسبة 35 بالمئة من السكان البالغين، وهي أعلى نسبة في العالم.
ويعاني 3.6 مليون طفل مصري (10.2 بالمئة) من البدانة. وأجريت هذه الدراسة منذ عامين، عندما كان عدد سكان مصر حوالي 90 مليون نسمة، بينما تجاوز عددهم الآن المئة مليون نسمة، كما أن حدة الأزمات تزايدت، وبالتالي ارتفعت النسبة.
ويُعرف عن المصريين أنهم من أكثر الشعوب حبا للطعام. فمنذ الدولة الفرعونية رسم القدماء صور الأطعمة على المعابد وحملوها معهم في مقابرهم عبر رحلة عابرة من الأرض إلى الحياة الأخرى. وتقترن كل مناسبة عند المصريين بأكلة خاصة. وكان الطعام عبر عصور مختلفة وسيلة احتجاج تقترن بحالة المواطنين المزاجية وتصوراتهم عن الحياة.
فقد كانت الملوخية رمزا سياسيا على غضب المصريين من قرارات الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله المجحفة، ومثلت أكلة الكشك الشعبية الشهيرة صرخة ساخرة من الوالي المملوكي على مصر، “كشكش بك في عصر دولة المماليك البحرية”، وترتبط أم علي بقصة زوجة عزالدين أيبك، وهو أول سلاطين المماليك بعد الأيوبيين، مع شجرة الدر.
لكن، هذه العلاقة الوطيدة مع الطعام لم تعد السبب الرئيسي والمباشر لارتفاع نسبة السمنة في مصر، حيث تسبقها أسباب أخرى تتعلق بالظروف الاجتماعية ونوعية المكونات التي تتضمنها هذه الأكلات والأطعمة التي تفتقر إلى مقومات الغذاء الصحي، كما تسبقها أيضا التوجهات الحكومية والأوضاع السياسية.
ونشرت مجلة أميركان بوليتيكس دراسة أجراها باحثون بجامعة كنساس تؤكد أن موقف الشخص من السمنة قد يرتبط بانتمائه السياسي. ودلت الدراسة على أن اتخاذ قرارات بشأن مكافحة السمنة والوقاية منها تتعلق بخيارات سياسية لهذا الشخص أو ذاك.
63 بالمئة من المصريين يعانون من زيادة الوزن وهو معدل من أعلى المعدلات في العالم
ويرى خبراء اجتماع أن احتمالات تجاوب المصريين مع مناشدة الرئيس السيسي بالانتباه لأوزانهم وممارسة الرياضة لن تكتب لها النجاح، لأن الأمر مبني على ثقافة اجتماعية وعلى بنية تحتية سياسية واقتصادية ونفسية.
وتقول هدى زكريا، الخبيرة في علم الاجتماع، إن الأكل بنهم وزيادة الوزن لهما أبعاد نفسية واضحة، لأن الطعام إحدى أشهر الوسائل الفطرية للإنسان للهروب من مشكلاته وأوجاعه والانتهاكات النفسية والوجدانية التي تصيبه.
وتوضح لـ”العرب” أن هناك دراسات متعددة تشير إلى أن “نسبة السمنة تزيد عند من هم يواجهون مشاكل اجتماعية واقتصادية صعبة، مثل ضغوط غلاء الأسعار والكبت السياسي وحالات الوفاة والانفصال وتأخر الزواج وغيره من أزمات حياتية متعددة”.
وتضيف زكريا أن مسألة مكافحة السمنة المنتشرة في المجتمع المصري “تحتاج إلى خطة واضحة المعالم وجهود منظمة وخطاب إعلامي متزن ومستنير يستطيع جذب فئات الشعب المختلفة للتجاوب معه، لأن البدانة من الناحية العلمية ليست عرضا للإفراط في تناول الطعام ولا تعبيرا عن الوفرة، فقد تكون ناتجة عن سوء التغذية أو تحديدا سوء نمط التغذية”.
ويعتقد البعض من الخبراء أن دعوة المصريين للتخلص من أوزانهم الزائدة لا تصح مع تكاثر مشكلاتهم بداية من صعوبة توفير المأكل والملبس والسكن مرورا بضمان مستقبل مهني وأسري أكثر استقرارا، وأن فكرة خلط الأمور الأساسية بقضايا فرعية، تعبر عن سوء فهم لطبيعة المصريين ومشكلاتهم.
ويؤكد سيد رجب، وهو شاب ثلاثيني، يعاني من زيادة في الوزن، أن “الدعوة إلى إتباع حمية غذائية ليست مبادرة جديدة على الحكومة التي دائما ما تترك أزماتنا الاقتصادية الصعبة وتندرج خلف أمور حياتية تخص أصحابها، وتقدم النصح باعتبارها المسؤولة عن سلوكيات الشعب”.
ويشير لـ”العرب” إلى أنه “يشجع مبادرة الحكومة لممارسة الرياضة، لكن أليس من المفترض أولا أن توفر أرصفة لنسير عليها، وملاعب رياضية بجودة عالية تكون مركزا للرياضات المختلفة، ثم بعد ذلك توعي العامة بضرورة ممارسة الرياضة أسبوعيا”.
الثقافة المجتمعية

تلقي مسألة زيادة الأوزان في الكثير من الأحيان المسؤولية على منظور غياب الثقافة العامة في كيفية اتباع أنماط صحية من الحمية الغذائية، وغياب ثقافة الرياضة عند الشعب المصري بشكل عام، المتهم دائما بأنه “شعب كسول وأكول ولا يريد استغلال وقت فراغه في ممارسة أنشطة حركية مفيدة بدلا من الجلوس على المقاهي”.
وتأتي ردود الفعل المعاكسة دائما لتتساءل عن كيف لبلد يصل عدد الفقراء فيه إلى أكثر من نصف سكانه أن يمارسوا الرياضة ويختاروا الأطعمة الصحية، وهم لا يملكون رفاهية الفراغ ويلهثون لسد جوع أطفالهم بأكبر كم من الطعام الرخيص المليء بالسعرات الحرارية، ولا يستطيعون الاشتراك في ناد رياضي ولا يملكون حتى رفاه التمتع بمنتزهات في مناطقهم وأحيائهم؟
إقرأ أيضاً:
وتقول سوسن مصطفى، وهي فتاة في نهاية العقد العشريني، “أذهب لأطباء التغذية منذ سنوات واتبع العشرات من الأنظمة الغذائية وأسعى جاهدة إلى تناول أطعمة صحية، لكن ذلك يستلزم امتلاك الكثير من الأموال، لأن الأغذية الصحية باهظة الثمن”.
وتؤكد مصطفى لـ”العرب” إلى أن “الأطعمة الشعبية غير الصحية رخيصة الثمن ومتوفرة بشكل أكبر، وإذا كنا نرغب في تغيير ثقافة المصريين نحو طريقة أكلهم علينا أولا أن نوفر الوجبات الصحية بأسعار زهيدة وفي متناول كل العامة”.
وذكرت منظمة الصحة العالمية أن هناك علاقة واضحة بين السمنة والفقر، وهي تؤدي إلى الإصابة بعدد من الأمراض غير السارية (المزمنة) المسؤولة عن معظم حالات الوفاة في مصر.
وتشدد سامية الساعاتي، أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس بالقاهرة، على أن مخاطر السمنة لها أبعاد مجتمعية خطيرة تهدد الأثرياء والفقراء على حد السواء، بداية من التنمر الذي يتعرض له الأطفال البدناء من أقرانهم، مرورا بمشكلة الاضطهاد الوظيفي وازدياد ظاهرتي العنوسة والطلاق، باعتبار أن الكثير من الناس لا يقبلون على الزواج من فتاة سمينة، كما أن الفتيات لا يرحبن غالبا بالعريس البدين بسبب تغير مقاييس الجمال في المجتمعات بشكل عام.
ورغم عدم وجود دراسات موثقة ودقيقة عن نسب الطلاق التي تحدث بسبب بدانة أحد الزوجين، فإن هناك تقديرات تقول إن البدانة مسؤولة عما لا يقل عن 10 بالمئة من حالات الطلاق السنوية في مصر، والتي بلغت 250 ألف حالة في العام 2017، سواء بحدوثها بعد الزواج وما يترتب عليه من إهمال الزوجين العناية بنفسيهما، أو لتبدل حالة الزوج “غالبا” المادية والاجتماعية، بحيث تتغير معها مواصفات الزوجة التي يستطيع أن يقدمها لمحيطه الاجتماعي الجديد.
وتظل مشكلة البدانة في نظر المسؤولين في مصر تبحث عن حلول تتعلق بحض المواطنين على تقليل كميات الطعام لتخفيف حدة الأزمة الاقتصادية، من دون تقديم حلول بديلة مقنعة، تحثهم تلقائيا عن التخلص من أوزانهم الزائدة، من خلال توفير حياة كريمة في المجالات المختلفة، وهي من صميم عمل الحكومة، التي اعتادت قذف الكرة إلى ملعب الشعب للتنصل من دورها الحيوي في الحفاظ على صحته، لأنها تندرج ضمن الأمن القومي للبلاد.