"سماء بضفيرتين" دراما شعرية تحول أبسط التفاصيل إلى قصائد

عبدالجواد العوفير يحاور العالم من عزلته المفتوحة على المطلق.
الاثنين 2025/06/30
الأنا الشاعرة تعيد نسج العالم (صورة للفنان توهامي النادر)

يمثل الشعر العربي الحديث، وخاصة في شكله النثري، حقلا خصبا للتجارب والرؤى التي تسعى لتجاوز القوالب المألوفة واستكشاف أغوار الذات الإنسانية والعالم المحيط بطرق مبتكرة.

 في هذا السياق، يأتي ديوان “سماء بضفيرتين” للشاعر المغربي عبدالجواد العوفير كإضافة لافتة، تقدم صوتا شعريا متفردا ينسج عالمه الخاص من خيوط الواقع والحلم، واليومي والميتافيزيقي، والوحدة الصارخة والبحث الخافت عن الألفة. لا يقتحم الديوان المشهد بضجيج عالٍ، بل يتسلل بهدوء وتأمل، مقدما لقطات، ومشاهد تكشف عن حساسية مرهفة وقدرة على التقاط المفارقات الدقيقة والجماليات الكامنة في العادي والمألوف، وحتى في القاتم والموحش.

تقنيات الكتابة

الديوان لا يقتحم المشهد بضجيج عالٍ، بل يتسلل بهدوء وتأمل
الديوان لا يقتحم المشهد بضجيج عالٍ، بل يتسلل بهدوء وتأمل

يُعد عنوان الديوان، “سماء بضفيرتين”، عتبة نصية مكثفة وشديدة الإيحاء، تختزل ببراعة التوتر الأساسي الذي يحكم عالم المجموعة الشعري بأكمله. إنه يجمع بين مفردتين تبدوان للوهلة الأولى متنافرتين، لكن اجتماعهما يولد شحنة شعرية ودلالية غنية تفتح الباب أمام تأويلات متعددة وتُهيئ القارئ للدخول إلى فضاء النص.

كلمة “سماء” تستدعي فورا معاني الاتساع، اللانهائية، العلو، التجريد، البعد، وأحيانا القداسة أو حتى القسوة واللامبالاة الكونية. إنها رمز للمطلق، للغيب، للمدى المفتوح الذي تتوق إليه الروح أو تخشاه. في المقابل، تأتي عبارة “بضفيرتين” لتستحضر عالما مغايرا تماما: عالم الطفولة، البراءة، الألفة، التفاصيل الصغيرة الملموسة، الجسد الإنساني (خاصة الأنثوي)، البساطة، والتقييد النسبي مقارنة بلانهائية السماء. الضفائر توحي بالترتيب، بالعناية، بالزمن الإنساني المحدود وبجمالياته الخاصة.

هذا التزاوج المدهش بين اللامتناهي (السماء) والحميمي المحدود (الضفيرتين) يخلق مفارقة بصرية وذهنية قوية، تصبح بمثابة المفتاح الذي يمكن من خلاله فهم الكثير من نصوص الديوان. العنوان لا يقدم حلا لهذا التوتر، بل يطرحه كمعطى أساسي، كحالة وجودية يعيشها الشاعر ويعكسها في نصوصه. إنه يوحي بأن هذا العالم الشعري سيتحرك باستمرار بين هذين القطبين: التأمل في الكليات والأسئلة الكبرى (السماء)، والانغماس في التفاصيل اليومية الصغيرة والهشة (الضفيرتين).

على الرغم من أن مصطلح “السرد” يرتبط عادة بالنثر القصصي والروائي، إلا أنه يمكن استخدامه بتحفظ لوصف الطريقة التي يبني بها الشاعر عالمه ويقدم تجاربه وأفكاره في “سماء بضفيرتين”، خاصة وأن الديوان يعتمد شكل قصيدة النثر التي تستعير بعض آليات السرد. لا نجد هنا حكاية خطية متصلة، بل تتجلى “السردية” الشعرية عبر مجموعة من التقنيات التي تشكل هوية الديوان الفنية.

 أبرز هذه التقنيات هي التفتيت والتجزيء؛ فالديوان مكون من قصائد قصيرة غالبا، ينقل التجربة الشعرية كلقطات سريعة، ومضات خاطفة، أفكار متناثرة ترفض الاكتمال أو التبلور في صورة نهائية متماسكة. كأن الشاعر يلتقط شظايا من الواقع والحلم والذاكرة ويرصفها جنبا إلى جنب، تاركا للقارئ مهمة الربط وخلق المعنى. تقنية أخرى مركزية هي المفارقة والمجاورة غير المتوقعة، وتتجلى بوضوح في بناء الصور الشعرية السريالية التي تعتمد على الجمع بين عناصر لا رابط منطقي بينها، “ألف الرفاق/ في لفافة واحدة/ وأدخنهم ببطء”، “الموسيقى تهبط الأدراج / مثل امرأة غنوج”. هذه التقنية لا تهدف فقط إلى إحداث الدهشة، بل إلى كسر أفق التوقع لدى القارئ، وفتح نوافذ جديدة على الواقع، وإظهار العلاقات الخفية وغير المرئية بين الأشياء والأفكار، وكشف الطبيعة الهجينة للعالم كما يراه الشاعر.

 التشخيص والأنسنة هي أيضا تقنية سردية فاعلة، حيث تُمنح المجردات (الوحدة، الليل، الموت، اللغة) والأشياء (الجدار، النافذة، البحر) صفات وأفعالا بشرية، فتصبح كائنات حية تتفاعل وتتحرك داخل النص، مما يضفي حيوية ودرامية على المشهد الشعري ويسمح باستكشاف هذه المفاهيم بطريقة محسوسة، نقرأ “الملاك الصغير الذي يقود الموت ككلب”، “ظلي يقلد ظل حمار وحشي”، كما يستخدم الشاعر تقنية الصوت المتعدد والمخاطبة المباشرة فبالإضافة إلى صوت الأنا الشاعرة المهيمن، نجد حوارات ضمنية أو مباشرة مع شخصيات حقيقية أو متخيلة أو تاريخية أو أدبية (كافكا، لوتريامون، الأب، فرجينيا وولف، عروة بن الورد..)، مما يكسر رتابة الصوت الواحد ويخلق حوارية تثري النص وتكشف عن مرجعيات الشاعر وتفاعله معها.

وأخيرا، تلعب تقنية التكرار دورا هاما في بناء إيقاع الديوان وتأكيد ثيماته المركزية (الوحدة، المطر، الليل، السماء)، حيث يعود الشاعر إلى مفردات وصور معينة، مما يخلق جوا عاما مهيمنا وشعورا بالدوران في فلك تجربة وجودية واحدة. هذه التقنيات مجتمعة تساهم في بناء عالم شعري لا يعتمد على حبكة متنامية، بل على تكثيف اللحظة، وتفجير الصورة، وخلق جو نفسي وفكري خاص يتسم بالغموض والتأمل والدهشة المستمرة.

الشاعر يلتقط شظايا من الواقع والحلم والذاكرة ويرصفها جنبا إلى جنب، تاركا للقارئ مهمة الربط وخلق المعنى

يشكل الزمان والمكان عنصرين أساسيين في تشكيل العالم الشعري لديوان “سماء بضفيرتين”، لكنهما لا يظهران كإحداثيات واقعية دقيقة بقدر ما يمثلان أبعادا نفسية ورمزية تعكس حالة الشاعر الداخلية ورؤيته للعالم. المكان في الديوان يتأرجح بين الداخل والخارج، لكن يبدو أن فضاء الداخل هو الأكثر هيمنة وحضورا. الغرفة/ البيت هي المكان المركزي الذي تتكثف فيه تجربة الوحدة والتأمل (“وحيدَان في غابة”، “في بيتي، مدام بوفاري”، “شجرة عزلة في الغرفة”). إنها ليست مجرد جدران أربعة، بل هي مسرح للأحلام والكوابيس، ومختبر للخيال، وملاذ من العالم الخارجي، وسجن للعزلة في آن واحد. تكتسب الغرفة صفات حية، فتطير بهجة، وتغرق في عرقها، وتحضن الساكن، وتنمو فيها أشواك الوحدة، وتجري فيها أحصنة الطفولة.

 المقهى والبار يمثلان فضاء انتقاليا، مكانا عاما يتيح المراقبة والتأمل في الآخرين وفي الذات المنعزلة وسط الزحام (“المرأة التي تجلس وحيدة في البار”، “وحيدا في مقهى”). إنه مكان للمواجهات العابرة، للذكريات، وللشعور بالاغتراب. الشارع/ الزقاق/ الرصيف يظهر كفضاء للحركة أو التأمل العابر، مكان لنمو العشب المفاجئ، أو لمرور شخصيات غامضة (“خطواتنا في هذا الشارع الطويل اللامنتهي”، “أتأمل شجرة ذابلة على الرصيف”).

الطبيعة (الغابة، البحر، الأشجار، العشب، السحب، المطر) حاضرة بقوة، لكنها غالبا ما تكون طبيعة مُستبطَنة، مُحمّلة بالمشاعر والأفكار، أو متداخلة مع الفضاء الداخلي (“المطر الذي داخلنا/ أغزر”، “البحر ضيفا في أي بار”، “أشجار سرو تنمو ببطء في حوش الدار”).

أما الزمان، فهو أيضا ذو طبيعة خاصة. نجد إشارات لأوقات محددة كالليل، وهو زمن مهيمن يرتبط بالوحدة، والذاكرة، والخوف، والغموض، وظهور الأشباح والأفكار السريالية (“أخمن في الليل”، “نسمع فيه الموت وهو يركض علی العشب”). الصباح يأتي كزمن للكشف، أو للبدايات الجديدة، أو للمواجهة مع الواقع، أو لجماليات عابرة (“جلبة باكرة”، “سحب كثيرة هذا الصباح”، “موتٌ صباحي، صغير”).

هناك أيضا إشارات لأيام الأسبوع (السبت، الأحد) التي قد ترمز للروتين أو للقطيعة معه. لكن الأهم من هذه التحديدات هو الشعور بزمن نفسي داخلي، زمن يتمدد وينكمش، يختلط فيه الماضي بالحاضر بالحلم.

الذاكرة تلعب دورا كبيرا في تشكيل هذا الزمن (“نخبئ ذكرياتنا في الجيوب”، “أطفال يركضون في الذاكرة”). هناك أيضا إحساس بزمن دائري أو متكرر، حيث تتكرر حالات الوحدة والتأمل والمواقف، مما يوحي بأن الزمن الخارجي لا يغير كثيرا من جوهر التجربة الداخلية. في النهاية، الزمان والمكان في “سماء بضفيرتين” ليسا مجرد خلفية للأحداث، بل هما مكونان أساسيان في التجربة الشعرية، يعكسان ويشكلان حالة الوعي الشاعري المتأرجح بين الانغلاق على الذات والتوق إلى الامتداد في العالم.

رؤية خاصة للعالم

ديوان عبدالجواد العوفير كإضافة لافتة، تقدم صوتا شعريا متفردا ينسج عالمه الخاص من خيوط الواقع والحلم
ديوان عبدالجواد العوفير كإضافة لافتة، تقدم صوتا شعريا متفردا ينسج عالمه الخاص من خيوط الواقع والحلم

تأتي الشخصيات في ديوان “سماء بضفيرتين” متنوعة ومتباينة، تتراوح بين الحضور الإنساني الملموس (ولو بشكل عابر)، والشخصيات الأدبية والتاريخية المستدعاة، والكائنات المتخيلة أو الرمزية، وصولا إلى الأنا الشاعرة التي تمثل البؤرة المركزية للرؤية والتجربة. الأنا الشاعرة هي الشخصية الأكثر حضورا وثباتا، وإن كانت تتسم بالانطواء والتأمل والميل إلى مراقبة العالم من مسافة. إنها ذات حساسة، تعيش عزلة عميقة (“وحيدَان في غابة”، “أنا الجار الوحيد”)، وتجد في الخيال والحلم متنفسا لها (“وهمي عال”). تتأمل في التفاصيل الصغيرة وتمنحها أبعادا وجودية، وتدخل في حوار صامت أو مباشر مع الموجودات من حولها ومع أطياف الذاكرة والثقافة.

المرأة تظهر كشخصية محورية ومتكررة، لكنها غالبا ما يكون حضورها غامضا، بعيد المنال، أو رمزيا. نجد “امرأة غنوج” تجسد الموسيقى، و”امرأة مخنوقة بالبكاء” في حلم كابوسي، و”امرأة بوشاح أخضر” تلقي ابتسامة عابرة، و”معلمة الإنشاء” التي علمته اللغة، و”الجارة” التي تسقي الزهر أو تضحك، وشخصيات أدبية كـ”مدام بوفاري” وفرجينيا وولف، و”فتاة البورتريه”، و”فتاة الكونتوار”، و”الأميرة”، و”الطفلة بضفيرتين.”

 هذه الشخصيات النسائية نادرا ما تكون فاعلة بشكل مستقل، بل هي انعكاس لمشاعر الشاعر أو تأملاته حول الجمال، الغموض، الطهر، الدنس، الحياة، والموت.

شخصيات أخرى تظهر بشكل متقطع: “الرفاق” المدخَّنون في لفافة، “المتصوفة الصغار”، كافكا رفيق الغابة، “الملاك الصغير” الذي يقود الموت، “الأب” المنعزل البعيد، “لوتريامون” الذي تمت مخاطبته، “النادل” الذي يروض الوحدة، “الشيخ بروتون”، “المسافر الوحيد”، ألبير كامو و”الأصدقاء الخافتین” المدعوون للعشاء، “البحارة المتعبون”، “بائع السمك الحزين”، عروة بن الورد رفيق الركض الخاسر، “الرائي”، “رجل الوحدة الهائل”، “السقاة”، “العمال”، “العميان”، “الحراس”. كل هذه الشخصيات، سواء كانت واقعية أم متخيلة أم مستدعاة من التاريخ والأدب، تساهم في إثراء العالم الشعري وتعميق أبعاده الحوارية والرمزية.

 كما يجب ألا ننسى الكائنات غير البشرية التي تلعب دور الشخصيات الفاعلة: الموت، الليل، الوحدة، الجدار، النافذة، السماء، البحر، الهواء، اللغة، الظلام، الأفكار، الحديقة، إلخ. هذه “الشخصيات” تتفاعل مع الأنا الشاعرة وتشارك في صنع الدراما الشعرية الهادئة للديوان، الذي يتفاعل فيه الواقعي مع المتخيل، والشخصي مع الجمعي، والتاريخي مع الآني.

من خلال تتبع خيوط النصوص وتأمل صورها ولغتها وثيماتها المتكررة، يمكن رصد ملامح فلسفية أو رؤية خاصة للعالم تنبثق من ديوان “سماء بضفيرتين”. إنها ليست فلسفة منظمة أو معلنة بشكل مباشر، بل هي رؤية وجودية تتخلل النصوص وتنعكس في طريقة الشاعر في النظر إلى الذات والآخر والعالم. مركزية الوحدة والاغتراب هي السمة الأبرز لهذه الرؤية.

 تبدو الذات الشاعرة في حالة عزلة شبه دائمة، سواء كانت في غرفتها، أو في مقهى، أو حتى في حوار متخيل مع الآخرين. هذه الوحدة ليست مجرد حالة نفسية عابرة، بل تبدو كشرط وجودي أساسي، كقدر يلازم الإنسان المعاصر (“وحيدَان في غابة”، “أنا الجار الوحيد”، “رجل الوحدة الهائل”). تتجلى هذه الوحدة في صعوبة التواصل الحقيقي مع الآخرين، وفي اللجوء إلى الخيال والذاكرة والأدب كعوالم بديلة أو كأصدقاء وهميين (“في صحة أصدقاء وهميين”). ضبابية الحدود بين الواقع والخيال هي ملمح آخر لهذه الرؤية.

العالم في الديوان ليس كيانا صلبا وواضح المعالم، بل هو فضاء تتداخل فيه مستويات مختلفة من الوجود: الحلم، الذاكرة، الواقع اليومي، الخيال المحض. “الحقيقة” نفسها تبدو شيئا مراوغا، قابلا للتشكل والاكتشاف في أماكن غير متوقعة (“اكتشفت الحقيقة في الوردة”، “وجدنا الحقيقة… تركناها تفر كطائر فزع”). هذه الرؤية تعكس تشككا في يقينية الواقع الموضوعي وتؤكد على دور الوعي الذاتي والخيال في بناء التجربة الإنسانية.

12