سلوى زيدان المقيمة في مفردات جمالها القليلة

الأعمال الفنية التي تروج لها زيدان تعبر عن ذائقتها الجمالية وتحتكم إلى سياق ما تفكر فيه على مستوى تفكير ما بعد الحداثة.
الأحد 2021/12/19
رسامة وصاحبة قاعة طليعية

أن يكون المرء رساما وصاحب قاعة فنية فإنه يدخل في ثنائية معقدة، ذلك لأن الرسم لا يقبل منافسا. كما أن الترويج للأعمال الفنية يجمع بين الخبرة الفنية والخيال الاقتصادي. هناك مسافة اجتازتها سلوى زيدان بموهبة استثنائية باعتبارها رسامة ذات أسلوب شخصي متميز وصاحبة قاعة نجحت في فرض شخصيتها في السوق الفنية.

أن تكون هناك مع الآخرين باعتبارها راعية لتجاربهم فذلك معناه أنها تقوم في الوقت نفسه بالتعلم. ذلك ما انعكس إيجابا على تجربتها الفنية من الداخل.

الناشطة التي سبقتها رسومها

تقول زيدان “إن لحريتي وإصراري على التجريب المستمر الدور الأول في تطوير عملي، واطّلاعي على الكثير من التجارب العربية والعالمية أغنى تجربتي وفتح أمامي المجال لكي أكوّن ثقافة بصرية قوية”.

لم تكتف بدورها رسامة مبدعة بل كانت عبر صلاتها بالآخرين ناشطة في المجالات التي يكون فيها الفن وسيطا لرسالة إنسانية. تعلمت زيدان بسبب أسفارها كيف تكون الأجنبية التي هي في الوقت نفسه ابنة البلد التي تستضيف الآخرين.

? زيدان لم تكتف بدورها رسامة مبدعة، بل كانت عبر صلاتها بالآخرين ناشطة في المجالات التي يكون فيها الفن وسيطا لرسالة إنسانية

تلك ثنائية أخرى عاشتها الفنانة بشغف ومنحتها الكثير من الوعي الشقي. لقد ابتكرت عالمها من ازدواجية شغفها؛ سيدة المنزل والغريبة التي ترعى الآخرين وتعرف كيف ومتى تستفيد من تجاربهم التي هي انعكاس لذائقتها الفنية.

كانت زيدان قد بلورت شخصيتها العملية من سؤال وجودي وضعت بين قوسيه حياتها العملية التي هي غطاء ولعها بالرسم. إنها تحب الرسم لذلك اختارت أن تكون مهنتها هي التعبير الأمثل لخلاصة ذلك الحب الذي شاءت أن تقدمه إلى الجمهور من خلال أعمال الآخرين. مسعى هو نوع من التضحية ينطوي على الكثير من الشعور بالنشوة.          

ما قدمته زيدان من خلال عملها في القاعة التي هي أكثر شهرة وعراقة في دولة الإمارات لا يقل أهمية عما قدمته من خلال الرسم، وإن كان إنجازها الفني هو ما يبقى. لذلك فقد أضفت الفنانة على عملها طابعا إنسانيا قادها إلى الاشتراك في الكثير من الفعاليات التي تكشف عن الجوهر الإنساني للفن.

لم تروّج للأعمال الفنية إلا لأن تلك الأعمال تعبر عن ذائقتها الجمالية وتحتكم إلى سياق ما تفكر فيه على مستوى تفكير ما بعد الحداثة. عالم زيدان هو خلاصة مختبرها التجريبي.

ولدت في سهل البقاع بلبنان عام 1956. وتركت بلادها في ثمانينات القرن الماضي. عام 1994 افتتحت قاعتها أول مرة في أبوظبي ثم أعادت افتتاحها عام 2009.

بدأت في عرض رسومها عام 1989 وأقامت معارض شخصية في لبنان وأبوظبي وفرنسا وتركيا والولايات المتحدة وهولندا وسويسرا والكويت.

إضافة إلى الرسم توزعت ممارساتها الفنية بين النحت والفن المفاهيمي. وقد خصصت جزءا كبيرا من نشاطها للدفاع عن السلام والحب والوعي البيئي، وهي في ذلك تعتبر من الفنانين الذين يدعون إلى تعزيز السلام وحرية التعبير.

أما عن أسلوبها الفني فيمكن القول إنها نجحت بعد جهد ودراسة معمقة للتجريدية الغنائية في الوصول إلى غايتها في البساطة التي لا تخلو من قدر من الغموض الممتع. عن طريق مفردات قليلة شيدت عالما متكاملا لا ينقصه شيء. في إمكان النظر إلى لوحاتها ومنحوتاتها أن يُخرج الحواس من صمتها. فما يراه متلقي أعمالها لا ينحصر في المتعة البصرية بل يرافق تلك المتعة شعور بأن تلك المفردات هي جزء من إيقاع تتردد موسيقاه كما لو أنه ذكرى مستعادة.

الجمال في تجلياته المختلفة

أعمال تعبر عن ذائقة الرسامة الجمالية

تلك الأشكال الحلزونية التي رسمتها بالحبر أواخر التسعينات كانت مصدر إلهامها في عدد من القطع النحتية، ومن خلال تلك الأشكال استحضرت الفنانة حركة البشرية في دورانها التاريخي المستمر الذي يخفي داخل عاصفته الرملية التي لا تكف عن الحركة صلحا داخليا بين الأشياء المتناقضة، إضافة إلى أنه يشير إلى حالة التطور الذي لا يكف عن إنتاج تجلياته.

بعين خبيرة تلتقط زيدان المفردة الخطية الرشيقة التي تعتقد أنها ستكون المعادل الشكلي لمشاعرها في لحظة إنسانية حرجة. ذلك هو مصدر الشعور بحميمية المشاهد التي ترسمها. 

كما لو أنها ترسم منظرا طبيعيا أو حياة جامدة تنظر الفنانة إلى ضربات فرشاتها وهي تبعث الحياة في عنصري الرسم، الخط والمساحة. كل شيء سيكون مؤهلا لكي يؤثث بحياة جديدة.

من أجل حداد أبدي

إيقاع تتردد موسيقاه كما لو أنه ذكرى مستعادة

“أثناء الرسم أحاول إنشاء أشكال مختلفة من مخاوفي ومشاعري وقلقي والارتباك. كلها تتحول إلى مصدر روحي للطاقة أحاول إطلاقه في اللوحة” تقول زيدان. وتضيف “أستعمل اللون الأسود في معظم لوحاتي لأنني أشعر أنه يحتوي على مصدر إلهام قوة رمزية لا تمتلكها الأصباغ الأخرى”.

هي مزيج خلاصاتها البصرية. لقد تعلمت هذه الفنانة من الفن أكثر مما يمكن أن يتعلمه المرء من دراسة الفن أكاديميا. صلتها اليومية بالجمال كانت بالنسبة إليها جسرا للوصول إلى مشاعرها الإنسانية التي ظلت بالنسبة إليها بوصلة وجود.

دفعتها الحرب إلى مغادرة وطنها هربا من الموت الذي رافقها في الكثير من التفاصيل الصغيرة التي رسمتها بالأسود الذي هو رمز لحداد أبدي لن يزيله ترف العيش المؤقت.

هناك حياة غادرتها لا تزال تقيم في ذاكرتها. ما ترسمه، وإن كان يميل إلى القليل من عناصر الرسم التي تبدو كما لو أنها في حالة صفاء داخلي، هو في حقيقته استعادة لركام من مشاعر الفزع التي تعود مصادرها إلى الحرب. تلك حرب لم تنته.

كانت لوحاتها وأعمالها الفنية الأخرى مناسبة لإيقاظ تلك المشاعر والاحتفاء بها من أجل أن لا تكون هناك حرب أخرى؛ لا لشيء إلا لأن الحرب بالنسبة إلى الفنانة لا تزال قائمة. تلك حرب أبدية يشنها دعاة القبح ضد الجمال. زيدان واحدة من أهم دعاة الجمال في عالمنا العربي.

كائن ولد من خلال الرسم

مفردة خطية رشيقة

ولكن ما معنى أن تقول الفنانة “لا أحب أن أشرح رسومي وإذا فعلت فإن ذلك لن يكون مفيدا”؟ لا تبحث زيدان عما هو مفيد من وجهة نظر العامة. سلوى تقيم في غموضها وهي لا تدعو الآخرين إلى تفكيك ذلك الغموض بقدر ما يهمها أن يشعر أولئك الآخرون بالمتعة وهم يقبلون على غموضها باعتباره جزءا من تلك الوجبة.

ليس من وظيفة الفنان أن يشرح لوحاته. كما أن العمل الفني لا يقوم بمهمة إرشادية. إن كان المرء قادرا على الارتقاء بنفسه إلى مستوى الذائقة الجمالية الرفيعة التي ينطوي عليها العمل الفني الحديث فإنه سيتمكن من التقاط مواقع السحر الجمالي. ذلك ما تراهن عليه سلوى زيدان من خلال مفردات قليلة بأصباغ ليست صارخة.

بالنسبة إليها كان الرسم طقس حياة، تمتزج من خلاله الأفكار بالصور؛ الأفكار التي تمثل وعيا مختلفا والصور التي تعبر عن طريقة نظر مختلفة إلى العالم. لقد شاءت أن ترى العالم من خلال أفكار تنزهت عن انحيازات الحرب فكان عليها أن تكون من خلال الرسم إنسانة لا تنتمي إلا إلى وجودها الشخصي، كائنا لا يمكن تعريفه بما سبقه، كائنا جديدا ولد من خلال الرسم. خلقت سلوى زيدان مستقبلها من خلال الرسم؛ قطعة من حياة غامضة، لا تجد ضرورة لشرح تفاصيلها.

 

9