سلوكيات البشر الرقمية سوق جديدة للمواد الخام

لا تعد الرقابة والسيطرة الحكومية أمرين مهمين مقارنة مع ما تفعله شركة غوغل من خلال بناء صنف جديد من الرأسمالية، التي تعمل وفق منطق متسق وجديد يجب أن نسميه رأسمالية المراقبة.
لندن- “من خلال تعقب كل نقرة لنا، وكل تعبير رقمي عن الاهتمام والطموح والشوق والرغبة، بإمكان رأسماليي المراقبة التسلق داخل رؤوسنا، وبيع تلك الرؤى السلوكية إلى زبائنهم الحقيقيين، وهم المعلِنون”، هكذا تقر الباحثة شوشانا زوبوف في كتابها الصادر حديثا “عصر رأسمالية المراقبة”.
ويدرس الكتاب قضية “ما إذا كنا سادة المعلومات والآلات أم عبيدها”، مستكشفا آلية عمل غوغل وفيسبوك ومايكروسوفت وأمازون والعديد من الشركات التكنولوجية الأخرى لصياغة شكل جديد من أشكال الرأسمالية، التي تصفها بـ”رأسمالية المراقبة” أو الترصد.
وتعتمد رأسمالية المراقبة على تحويل التتبع الرقمي إلى استراتيجية تسعى الشركات القوية من خلالها للتنبؤ والتحكم في سلوكنا، باعتباره “شكل سوق جديد يستخدم السلوكيات البشرية كمصدر حر للمواد الخام”.
وأكد تقرير لصحيفة فاينانشال تايمز أن زوبوف التي تشغل منصب أستاذ فخري في كلية هارفارد للأعمال “مصممة على إيقاظ شعورنا بالدهشة والغضب من الطريقة التي تطورت بها هذه الرأسمالية المارقة، لتسيطر على حياتنا وتهبط بمستواها، إلى حد كبير دون ملاحظة ودون أن يقف في وجهها أحد”.
وتقدم زوبوف ادّعاء مثيرا للقلق، وهو أن رأسمالية المراقبة أوجدت نوعا جديدا من السلطة غير الخاضعة للمساءلة.
وتؤكد زوبوف في كتابها أن شركة غوغل ابتكرت وأتقنت رأسمالية المراقبة إلى حد كبير، بالطريقة نفسها التي ابتكرت بها شركة جنرال موتورز الرأسمالية الإدارية وأتقنتها قبل قرن من الزمن.
ومن وجهة نظر زوبوف، مهمة شركة غوغل الأصلية لجعل جميع معلومات العالم متاحة أمام الناس، تحولت إلى دافع قوي لا يرحم لكسب المال من خلال استغلال وتعديل السلوك البشري، ومن خلال عرض الإعلانات للمستخدمين تماما، في اللحظة التي يكونون فيها في أقصى حالات الضعف أمام الإقناع وتوليد احتياجات لا يعرفون أنها لديهم.
وتسعى شركة غوغل الآن إلى الاستيلاء على جميع بياناتنا، من خلال ابتكار منتجات جديدة لشفط كل جزء على الخارطة الرقمية.
فكل جهاز “ذكي”، من المساعدين الرقميين إلى موازين الحرارة الشرجية والسيارات ذاتية القيادة، والمنازل المتصلة، أصبح آلية لجمع البيانات. وتعد جميع هذه المستحدثات بمنزلة مرايا باتجاه واحد تسمح لرأسماليي المراقبة بالتجسس علينا دون أن نرى ما يحدث خلف الزجاج إطلاقا.
وتكتب زوبوف “مر علينا زمن حين كنا نبحث في محرك البحث غوغل، لكن الحاصل الآن هو أن محرك غوغل هو من يبحث فينا كي لا نقول يعبث بنا”.
وينخرط أكثر من مليار مستخدم فعال شهريا في سبعة من منتجات ومنصات شركة غوغل متمثلة في البريد الإلكتروني جي ميل، وأندرويد، ومتصفح كروم، والخرائط (مابس)، والبحث (سيرتش)، ويوتيوب، ومتجر تطبيقات غوغل، ما يمكّن الشركة من تعقب المزيد من مجالات حياة أي مستخدم.
وبالمثل، فإن شركة فيسبوك لديها أكثر من ملياري مستخدم وتمضي أيضا إلى توسيع نطاق اهتماماتها إلى العالم المادي.
تقارن المؤلفة توسع رأسماليي المراقبة بتوسع الغزاة الإسبان، الذين راهنوا على أراض بكر في العالم الجديد، في الوقت الذي قمعوا فيه سكان أميركا الأصليين، الذين لم يكونوا على علم بالخطر الذي جاء إليهم.
على أن هناك طبيعة ذات جانبين لرأسمالية المراقبة، وهي طبيعة تجعلها خطيرة جدا، من وجهة نظر زوبوف، حيث تختفي الحقيقة المظلمة خلف الوهم البراق الظاهر للعيان.
وتؤكد زوبوف أن مستخدمي محرك شركة غوغل ليسوا زبائن الشركة الحقيقيين، فالشركة دائما ما تعطي الأولوية للذين يدفعون الفواتير، وتفضلهم على الذين يستخدمون خدماتها، طالما ظلوا مدمنين عليها.
كانت هذه أيضا وجهة نظر سيرجي برين ولاري بايج، اللذين أسسا شركة غوغل، واللذين قدما ورقة بحث في عام 1998 تسلط الضوء على مخاطر الإعلانات.
وقد قالا في البحث “نتوقع أن محركات البحث الممولة من الإعلانات ستكون منحازة بطبيعتها نحو المعلنين، وتبتعد عن احتياجات المستهلكين. من الصعب جدا كشف هذا النوع من التحيز، لكن لا يزال من الممكن أن يكون له تأثير كبير على السوق”.
تغيرت وجهة النظر العامة هذه عندما أدركت شركة غوغل أن الرؤى السلوكية التي تستطيع استخلاصها من بياناتها هي منجم ذهب محتمل، وتوفر مكافآت أكبر بكثير من الأعمال الأخرى التي تعتمد على الإعلانات مثل التلفزيون التجاري.
وتجادل زوبوف بأن أوضح تبرير منطقي لرأسمالية المراقبة قام بتحديده هال فاريان، كبير خبراء الاقتصاد في شركة غوغل، الذي يشار إليه في بعض الأحيان بأنه “الأب الروحي” لنموذج الإعلانات في الشركة.
وحدد فاريان أربع سمات لهذا الاقتصاد الجديد: استخراج البيانات وتحليلها، أشكال تعاقدية جديدة بسبب التسييل الأفضل، إضفاء الطابع الشخصي والتخصيص، والتجريب المستمر.
وهذه هي الصيغة التي مكنت شركة غوغل من توليد ثروتها الهائلة بمساعدة قصوى من محركها، وتم نسخها من قبل الكثيرين منذ ذلك الوقت.
إن ما يجعل رأسمالية المراقبة واسعة الانتشار بشكل خاص هو الطريقة التي تفترس بها نقاط ضعفنا السلوكية. في الواقع، تجادل زوبوف بأن القدرة على التداول والمتاجرة في سلوكنا أوجدت “وهما سلعيا” جديدا، بحسب تصنيف أستاذ التاريخ، كارل بولاني.
ومن وجهة نظر أستاذ التاريخ، لم ينطلق اقتصاد السوق فعلا إلا عندما تطورت ثلاثة “ابتكارات” ذهنية، على شكل العمالة والأرض والمال، ما أدى إلى تحول المفاهيم المجردة إلى سلع يمكن تبادلها.
وبالطريقة نفسها، تقول زوبوف إن رأسماليي المراقبة كانوا قادرين على تسويق قصة السلوك، على نحو يحول بياناتنا إلى أرباح.لم يعودوا يستضيفون المحتوى فحسب، بل أيضا وبشكل قوي وسري ومن جانب واحد استخراج القيمة من ذلك المحتوى”.
وتقول زوبوف إن رأسماليي المراقبة ليسوا قادرين على تحقيق الدخل من بياناتنا فحسب، بل وبإمكانهم أيضا استخدامها للتنبؤ بسلوكنا وبالتالي تعديله. من الناحية الميكانيكية، لم يعودوا مجرد أجهزة استشعار، بل أصبحوا أيضا مشغلين للبشر.