"سلام ".. أجساد راقصة تطلق صيحة فزع لإنقاذ الطبيعة

الحمامات (تونس)- في إطار انفتاح مهرجان الحمامات الدولي على العروض الكوريغرافية، كان للجمهور موعد مع العرض الكوريغرافي “سلام” للفنان التونسي عماد جمعة، وهو عرض من إنتاج مسرح الأوبرا وأداء بالي أوبرا تونس – قطب البالي والفنون الكوريغرافية.
وعلى الخشبة دقت الأجساد الراقصة ناقوس الخطر لإنقاذ الإنسانية وقيمها السامية النبيلة والحؤول دون اندثارها وفنائها في ظل حصار البلاستيك الذي ملأ كل الزوايا والأركان.
وفيما تظهر امرأة تلتحف كيسا بلاستيكيا في إحالة إلى غزو البلاستيك لمختلف مناحي حياتنا اليوم، تطالعك أخرى ملقاة على الخشبة تصارع من أجل النهوض ولكنها تسقط في كل مرة قبل أن تتهافت الأجساد من حولها، وتراوح الحركات بين السقوط والنهوض على إيقاع صفارة الإنذار التي تتردد منبئة بالخطر المحدق.
◙ اختيار العرض ضمن عروض مهرجان عريق مثل الحمامات الدولي يؤكد التوجه الرسمي إلى العناية أكثر بالفن الكوريغرافي في تونس
في الأثناء تتصاعد موسيقى تحاكي الحرب ويتحرك الراقصون والراقصات في اتجاهات مختلفة متقاطعة، يبدو عليهم القلق والاضطراب، لكنهم لا يستسلمون ويستمرون في المقاومة التي تجلت في كل اللوحات الكوريغرافية التي جسدها الراقصون.
على امتداد ساعة من الزمن تنتشر الأجساد الراقصة على الخشبة وتنثر التحذيرات مما يحدق بالطبيعة من مخاطر في محاولة للتوعية بأزمة التلوث وبضرورة وضع حد لغزو البلاستيك الذي يتضاعف يوما بعد يوم.
ويدعو العمل الكوريغرافي “سلام” إلى تغيير السلوك ومراجعة التصرفات في علاقة بحماية المحيط من التلوث قبل فوات الأوان، وقبل أن تغص الأرض بالبلاستيك وتلفظ الإنسان خارجها لأنه لم يهتم لشكوى الطبيعة.
ويواصل جمعة من خلال عرضه مشروعه القائم على الاشتباك مع القضايا الراهنة، مثل عمله الذي تناول الثورة التونسية، واليوم ها هو يناقش أخطر وأكثر القضايا تعقيدا والتي لا يوليها العالم العربي الاهتمام الكافي، ألا وهي قضايا البيئة، رغم الآثار الواضحة للعيان حول ما خلّفته النفايات وعلى رأسها البلاستيك من كوارث بيئية ستتواصل لقرون بينما تتعاظم في ظل التراخي الرسمي وغياب الوعي.
وهو من مجموعة من الفنانين القلائل الذين يحملون الأجساد الراقصة الرسائل من خلال جماليات هادفة لا مفرغة ومكررة غارقة في نظرة مغلقة للعالم، إذ يتشابك بجرأة مع واقعه وهذا ما يرسخ الوظيفة الهامة للفن اليوم.
ويمكن إدراج عرض “سلام” ضمن لائحة الفن الإيكولوجي الذي بات منتشرا بشكل بارز اليوم في شتى أنحاء الأرض، ولو أن انتشاره عربيا مازال ضعيفا.
وهذا النمط الفني لا يهدف إلى إحداث تغيير جذري على مستوى العالم، وإنما يعمل في نطاق تعاون دائم، ولو بطريقة غير مباشر في الغالب، مع العلماء والمواطنين والمجموعات البشرية للتحسيس والتوعية، فأنصاره ليسوا مناضلين داخل أحزاب وكتل وجمعيات بل هم فنانون قبل كل شيء، لا غاية لهم سوى الدفاع عن البيئة التي تتعرّض منذ عقود من السنين إلى تدمير لا يتوقّف.
كما ان أنصار الفن الإيكولوجي لا يزعمون إنقاذ العالم عن طريق أعمال ولّدها خيالهم، وإنما يحدوهم أمل بأن تكون لمسعاهم عدوى، تنتقل من فرد إلى فرد، ومن مجموعة إلى مجموعة، ومن شعب إلى شعب، حتى يدرك الجميع أن مصيرهم واحد على هذا الكوكب الأزرق. وهو ما انخرط فيه بوعي عرض “سلام” الذي يحاول أن يكون رسالة توعية صارخة وصريحة تقدمها الأجساد بحركاتها التي نجح في قراءتها الجمهور.
ويقدم الراقصون والراقصات أميمة المناعي وزينب بوزقرو وخلود بن عبدالله ووائل مرغني وسيرين كلاعي وحازم الشابي وعمر عباس وعبدالقادر دريهلي وهشام الشبلي وسهيل عبدالجليل وعبدالمنعم خميس وإلياس التريكي هذه اللوحات الكوريغرافية التي تسبح ضد التيار في مواجهة عديد المؤسسات والمبادرات التي لا تتوانى عن تدمير المجتمع وتخريبه من أجل مصالح ضيقة وغايات تجارية بالأساس جعلت من الطبيعة فريسة للبلاستيك وغيرها من الآفات.
واختيار العرض ضمن عروض مهرجان عريق مثل الحمامات الدولي يؤكد التوجه الرسمي إلى العناية أكثر بالفن الكوريغرافي في تونس.
ويحظى فن الكوريغرافيا بدعم هام في تونس خاصة في السنوات الأخيرة إذ يشهد إقبالا كبيرا من الشباب ودعما هاما من المؤسسات الرسمية وهو ما يؤكده عماد جمعة مشيرا إلى مكانة المشهد الكوريغرافي الراهن على الساحة الثقافية، مثمنا توجه سلطة الإشراف اليوم نحو إعادة الاعتبار لهذا الفن وإيلاء عناية كبيرة له من خلال إحداث قطب خاص بالباليه والكوريغرافيا صلب مدينة الثقافة فضلا عن تنظيم أيام قرطاج الكوريغرافية، داعيا في هذا الصدد الراقصين إلى الحفاظ على هذا المكسب وتعزيز الفن الكوريغرافي بالابتكار والتجديد المتواصل.
ويعتبر عماد جمعة أحد أهم مؤسسي مدرسة الرقص المعاصر في تونس من خلال مسيرة تمتد منذ الثمانينات، حيث أسس في سنة 1989 فرقة مسرح الرقص.