"سكر الهلوسة" تصدر بعد سبعة وثلاثين عاما ولا شيء تغير

رواية الكاتب السوري علي عبدالله سعيد تتخطى كل ما هو تقليدي وتتجاوز زمنها الحقيقي.
الثلاثاء 2023/09/26
بطل تائه في ذاته (لوحة للفنانة هبة عيزوق)

دمشق - تتجاوز رواية “سكر الهلوسة” للكاتب السوري علي عبدالله سعيد زمنها الحقيقي بين عامي 1983 و1986، لتفرض زمنها الخاص، مديدا وآنيا، مليئا بالأحداث والشخصيات، في حبكة تتخطى فيها كل ما هو تقليدي، ليس تناغما مع موضوعها الشائك وعوالمها المركبة فحسب، إنما أيضا لقدرة كاتبها على إحداث الدهشة منذ السطر الأول “هاربا من الجحيم اليومي”.

تمضي لعبة السرد على مدار تسعة فصول يطارد فيها البطل هروبه إلى ما يتوق إليه وينفلت منه، إلى ما يجعله يصارع مصائره بضعفه وهشاشته، بتأملاته الفلسفية، بتوقه المتجدد للحب والامتثال الكامل للجسد، باقتحامات وتصادمات وهلوسات تتجلى في غرف مظلمة، وفي شوارع تتربص بالعابرين إلى خلواتهم في زمن الحرب، وفي دهاليز المؤسسة بجدرانها الصماء ومكاتبها الضيقة، وبموظفيها وطقوسهم المجنونة في محاولة لدرء تصدعات الحياة.

الرواية تقدم دراما وطنية وإنسانية في حقبة سابقة من تاريخ سوريا وما ولدته من استكشافات وأفكار وجودية
الرواية تقدم دراما وطنية وإنسانية في حقبة سابقة من تاريخ سوريا وما ولدته من استكشافات وأفكار وجودية

في كلمة الغلاف يضيء الناشر على ما سيتبدى للقارئ في هذا الكتاب، فيكتب “لا تأبه هذه الرواية بالمنع والتغييب، ولا بكل ما جوبهت به لئلا تطبع، وها هي تخرج إلى النور طازجة كما لو أن الروائي السوري علي عبدالله سعيد انتهى من تأليفها للتو، وليس منذ أكثر من سبع وثلاثين سنة”.

ويضيف “إنها رواية عصية على الزمن، توقظ وردة ندية من حلمها، وتجعل من الشهيق والزفير معركة، أما سكرها فله أن يذوب بحياة راويها ونسائه، وهو يقص على سلام الجزائري حيواته مع النازفين المرميين في العراء، تارة يسرد ويضيء، وأخرى يهلوس ويهذي، وفي خضم ذلك تتوالى الحكايات والإشراقات والرغبات، والخيانات والخيبات والهزائم، كما لو أن النص قفزة في الزمن، ومعبر روائي استثنائي إلى واقع يوثقه سعيد بأن يشكله ويعيد تشكيله مرارا تحت إملاءات التوق إلى الحب والحرية والحياة”.

لعل هذا ما جعل صاحب “اختبار الحواس” (جائزة مجلة الناقد 1992) يستهل روايته بمقولة هوبل، من “كتاب الضحك والنسيان” لميلان كونديرا “لتصفية الشعوب… يبدأ بانتزاع ذاكرتها، وتتلف كتبها، وثقافتها وتاريخها، فيكتب لها آخر كتبا أخرى، ويعطيها ثقافة أخرى، ويبتكر لها تاريخا مغايرا، وبعدئذ، تنسى الشعوب شيئا فشيئا ما هي عليه، وما كانته، وينساها بسرعة أكبر العالم الذي يحيط بها”.

وهنا مجتزأ من الغموض المثير للفضول، من الدراما الوطنية والإنسانية في تلك الحقبة من تاريخ سوريا وما ولدته من استكشافات آنية في اختبار الصداقة والموت والانتماء، وإشراقات مؤلمة تمتزج فيها السخرية بجرأة اختراق المحظورات فكريا وسياسيا، كيف لا، وهو يخاطب في سلام الجزائري تلك الحالة البريئة النقية، من العري والحنان والطمأنينة.

يقول بطل الرواية “الحب… يا سلام./ ما الفائدة من الحب؟/ ما الفائدة من الحزن؟/ ما الفائدة من الوطن؟/ ما الفائدة من الفرح؟/ أبدو يائسا وشهيا/ كان يأسي لذيذا./ كان الوطن بين القتلة ضيقا كالحذاء الذي اهترأ. لذا… أتلمس مسامير اللحم التي خلفها الوطن على قفا أصابعي…/ وأنت أتقبلين يأسي هكذا؟ أم تريدين وردة السفرجل الحزينة الذابلة؟”.

بطل تائه متمرد على كل شيء وكل مفهوم
بطل تائه متمرد على كل شيء وكل مفهوم

إنه مثال على بطل الرواية التي تكتب اليوم، بطل تائه متمرد على كل شيء وكل مفهوم، شخص يخبئ في روحه وذاته آلام العالم ويسخر منها، وهو ما نلاحظه في حواراته التي تروم أغلبها السخرية السوداء، يقول “هاربا من الجحيم اليومي. على الباب الخارجي أقدّم سيجارة للحارس المعتوه، يقول لي: كل يوم تخوزقني بسيجارة وتهرب. في الهربة القادمة عليك أن تخوزقني بعلبة كاملة. وإلا../ ـ حسنا.. قبل ذلك لم أكن التقيت سلام الجزائري سوى مرّات قليلة. ولا مرّة منها كانت في غرفة النوم، أو فوق سرير الشهوات. هي إلى حد ما.. بغلة متعالية ومغرورة”.

ولنا أن نلاحظ أي نوع من الرواة هذا البطل الساخر الذي يؤكد أن الواقع العربي لم يتغير كثيرا منذ الثمانينات الفترة التي كتبت فيها الرواية.

“سكر الهلوسة” لعلي عبدالله سعيد رواية أيقونية بحداثتها ونفسها التجريبي ولغتها المدهشة الممتدة عبر 320 صفحة، كتبت قبل 37 سنة لتصدر اليوم عن محترف أوكسجين للنشر، وتكون شاهدة على زمن يأبى التصنيف، بحروبه الدموية ودماره متعدد الأوجه، ومنها وجه الحب كما لم يكتب من قبل.

يذكر أن علي عبدالله سعيد من مواليد اللاذقية سنة 1958، درس الصحافة ليمتهن لاحقا الأعمال الحرة، وله عدد هام من الروايات نذكر منها “اختبار الحواس” التي حازت على جائزة الناقد 1993، “جمالية المتاهة” التي نالت جائزة منتدى ابن خلدون القاهرة 1993، “براري الخراب” الصادرة عن دار آرام دمشق 2000، وله أيضا عدد من الأعمال القصصية منها “هكذا مات تقريبا” مطبوعات وزارة الثقافة السورية 1993، “موت كلب سريالي” الحاصلة على جائزة أصدقاء الأدب وزارة الثقافة السورية 1993.

12