سقوط الجدار الحديدي لإسرائيل

الصهيونية في جوهرها تعدّ محاولة لخلق مساحة آمنة للشعب اليهودي. انبثقت أيديولوجيتها خلال فترة كانت فيها الأقليات في جميع أنحاء أوروبا تبحث عن طرق جديدة لتأمين استقلالها الثقافي والديني. وكانت السلامة شرطا أساسيا لأي نظرية تشمل التحرر الوطني كما في حالة الشعب اليهودي الذي تعرض للاضطهاد لعدة قرون. وحين ركّز المفكرون الصهاينة الأوائل على التحرر القومي اليهودي، لم يفكروا كثيرا في كيفية رد فعل الفلسطينيين الأصليين على إنشاء دولة يهودية على أرضهم.
وحين برزت العوائق أمام التعايش السلمي، قال الصهاينة اليمينيون إن السبيل الوحيد لتطوير أمن الدولة اليهودية (وبالتالي الشعب اليهودي) سيكون من خلال القوة العسكرية. وأصبحت هذه الفكرة، المعروفة باسم “الجدار الحديدي”، أساسية بالنسبة إلى القادة الإسرائيليين. لكن هذا الجدار تدمّر إثر هجوم قاده مسلحون من حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر، أي بعد مرور أكثر من سبعين عاما على بعث هذه الإستراتيجية.
ويعود إنشاء مفهوم الجدار الحديدي إلى زئيف جابوتنسكي، مؤسس الصهيونية التعديلية، وهي نسخة يمينية متشددة من الأيديولوجية التي تفضل التوسع الأقصى للدولة الإسرائيلية. وقال إن التوصل إلى اتفاق سلام طوعي مع الفلسطينيين يعدّ “غير قابل للتحقيق”. وكتب في 1923، أنه “يجب على الصهاينة إما تعليق الجهود الاستيطانية أو مواصلتها دون الاهتمام بمزاج السكان الأصليين. ويمكن بالتالي للاستيطان أن يتطور تحت حماية قوة لا تعتمد على السكان المحليين، خلف جدار حديدي لن يستطيعوا تهشيمه”.
◙ إسرائيل تدير واحدا من أكثر الجيوش تقدما في العالم، بالإضافة إلى جهاز استخبارات قوي. لكن الغطرسة التي صاحبت احتلال الفلسطينيين لعقود أبرزت أن هذه الأدوات لا توفر الأمن الأساسي
وكان من النفاق والمضر أن يعبر الصهاينة عن أي استعداد للتفاوض مع الفلسطينيين حسب منطق جابوتنسكي الاستقطابي. وتغلغلت أفكاره في أذهان القادة الإسرائيليين على جميع جوانب الطيف السياسي لتصبح سياسة الأمر الواقع في الدولة المبكرة، حيث يتمحور سبب وجود إسرائيل حول خلق وطن يهودي آمن.
وتسببت دولة إسرائيل حين تأسست خلال 1948 في تهجير أكثر من 750 ألف فلسطيني من منازلهم قسرا، ووضعت نظاما للسيطرة على حياة السكان الأصليين. وكانت الجدران والأسيجة وجمع المعلومات الاستخباراتية أساس الجدار الحديدي، الذي يفصل الدولة اليهودية عن بقية المنطقة. وبقيت حاجة اليهود إلى الدفاع عن أرضهم من اللاجئين الفلسطينيين العائدين مفهوما أساسيا آخر في العقلية الإسرائيلية. وانطلق كل شيء من مبدأ الدفاع.
لكن كل شيء تغير في 7 أكتوبر، حين تدفق مقاتلو حماس، الذين ينحدر العديد منهم من نسل اللاجئين الفلسطينيين، عبر الجدران الحدودية التي تفصل بين إسرائيل وغزة. ولم يستطع الجيش ردع الهجوم. وواجه الإسرائيليون أهوالا لا يمكن وصفها على أيدي المسلحين لساعات طويلة دون مساعدة فعّالة من الدولة.
وكسر هذا أساس العقد الاجتماعي الذي أبرمته إسرائيل مع مواطنيها، وهو أن الجيش وقوات الأمن سيمنعان اللاجئين من العودة وقتلهم في منازلهم. وأمكن اختراق الجدار الحديدي بطريقة لم يعتقد الإسرائيليون أنها ممكنة. حتى إن حماس نفسها صُدمت من هشاشة الجيش الإسرائيلي.
ماذا سيحدث الآن؟ لقد كُسر العقد الاجتماعي الأساسي الذي كان قائما بين الإسرائيليين وحكومتهم ومفهوم الصهيونية الأساسي. ولا توجد أعذار كثيرة يمكن أن يقدمها القادة الإسرائيليون لتفسير هذا الفشل الهائل. وكانت آلة السيطرة الإسرائيلية المعقدة على حياة الفلسطينيين تعمل بهدوء حتى 7 أكتوبر، مُغرقة إسرائيل في شعور زائف بالأمان لعدة سنوات. وتهاوت الفرضية القائلة بأن احتلال الأراضي الفلسطينية يشكل شبكة أمان.
ماذا يحدث للمبدأ التأسيسي الأساسي للدولة اليهودية القائل إن إسرائيل قادرة على حماية اليهود من الهجمات المروعة بعد أن أمكن اختراق الجدار الحديدي؟ كيف يمكن للحكومة استعادة هذا العقد الاجتماعي؟ وكيف يمكنها استعادة الثقة في قدرتها على الحماية؟ ستستغرق الإجابة على هذه الأسئلة الصعبة بعض الوقت، لكن استجابة القيادة الإسرائيلية الأولية لم تكن مشجعة. ولم يستقل أي زعيم إسرائيلي كبير بينما سارعت أجهزة العلاقات العامة الإسرائيلية إلى وصف الهجوم على المدنيين الإسرائيليين بأنه هجوم على جميع اليهود.
◙ دولة إسرائيل تسببت حين تأسست خلال 1948 في تهجير أكثر من 750 ألف فلسطيني من منازلهم قسرا، ووضعت نظاما للسيطرة على حياة السكان الأصليين
يمكن أن يعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي يعتبره أغلب الإسرائيليين الطرف الرئيسي المسؤول عن هذا الفشل، عن إجراء انتخابات في غضون ستة أشهر بعد هدوء القتال ويقول إنه لن يخوض السباق. وهذا لم يحدث ولا توجد مؤشرات على إمكانية حدوثه. كما دق الجيش الإسرائيلي طبول الحرب وينتظر الأوامر لشن غزو بري في غزة بدلا من التركيز على تحرير الرهائن الذين تحتجزهم حماس. وأبرز التاريخ أن الاجتياح البري في غزة لا يحقق سوى القليل من النتائج الدائمة.
ولا تملك إسرائيل في نهاية المطاف الإجابة الآن، حيث يشتمل الحل على التفكيك الكامل للاحتلال وسيطرته على حياة الفلسطينيين. وروجت الدولة للاحتلال بصفته إجراء لا مفر منه لضمان الأمن الإسرائيلي تحت عنوان منطق الجدار الحديدي. لكن هذا فشل.
وتدير إسرائيل واحدا من أكثر الجيوش تقدما في العالم، بالإضافة إلى جهاز استخبارات قوي. لكن الغطرسة التي صاحبت احتلال الفلسطينيين لعقود أبرزت أن هذه الأدوات لا توفر الأمن الأساسي.
ومن المفارقات أن أفضل طريقة لتحقيق النتائج المرجوة من الجدار الحديدي تتلخص في تجاوز أيديولوجية القوة الخالصة لتحقيق تسوية عادلة يتمتع فيها كل الموجودين بين نهر الأردن والبحر المتوسط بحقوق متساوية. لقد شهد العالم ما يسببه الوضع الراهن لكلا الشعبين.