سقف عال في رئاسية تونس بعد الباجي قائد السبسي

منصب الرئيس على صلاحياته المحدودة في تونس ما بعد الثورة فإنه لا يزال مقترنا في الثقافة الشعبية التونسية بالمنصب الأعلى في هرم السلطة، وهو أمر ترسّخ مع ولاية الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي القادم من المدرسة البورقيبية، وتأكد هذا أيضا بعد وفاته.
أخطأ واضعو النظام السياسي من الأغلبية الحاكمة في تونس في تقدير رمزية المنصب مع تبنيهم للنظام البرلماني بعد ثورة 2011. وكان في اعتقاد الحكام الجدد أن الانقلاب على النظام الرئاسي سيكون كافيا وحده لقبر الاستبداد والتمهيد لهيمنة البرلمان على الحياة السياسية وصناعة القرار. لكن الموازين السياسية في الشارع التونسي ظلت وفية للترتيب الهرمي القديم للسلطة الذي ظل سائدا منذ بناء دولة الاستقلال.
قبل وفاة قائد السبسي، طيلة فترة حكمه وحتى أثناء تقلده لمنصب رئيس الوزراء في الحكومة الانتقالية التي نظمت أول انتخابات ديمقراطية بعد الثورة عام 2011 وسلمت الحكم للفائزين، كان تقييم أداء الرئيس الراحل والنبش في سجله القديم خبزا يوميا لدى خصومه والخبراء وحتى لدى محركي العرائس في البرامج التلفزيونية الساخرة.
الخلاف لا يزال قائما حتى اليوم بعد الوفاة لكن أيا كانت الآراء فإنه يجدر دائما طرح الأسئلة المهمة التالية: ماذا لو أن انتخابات 2011 الأولى بعد الثورة لم تنجح؟ وماذا لو أن السبسي لم يؤسس حركة نداء تونس في 2012 وترك الساحة للإسلاميين في ذروة هيمنتهم على الحكم؟ كان الوضع في تونس اليوم سيكون مختلفا بلا شك.
دستور 2014 أراد أن يعيد تعريف الرئيس في الجمهورية الثانية ويحصر أدواره داخل جدران القصر الرئاسي وفي السياسة الخارجية والتعيينات الهامة في مؤسسات الدولة علاوة على مهامه التقليدية زمن الحرب والسلم في مقابل صلاحيات واسعة لرئيس الحكومة الذي تعينه الأغلبية البرلمانية. فهل كان هذا الدستور فعلا كافيا لقيادة مرحلة انتقالية معقدة وبموازين قوى جديدة في السلطة.
الواقع أن خبرة الرئيس المخضرم كانت تأبى أن تحاصر بصلاحيات مقيّدة لذلك جاءت مبادرة الحكم التوافقي بين الخصوم ومبادرة حكومة الوحدة الوطنية والوساطة مع الشركاء الاجتماعيين، وآخرها قبل وفاته تحجيم نوايا البرلمان في توجيه مسار الانتخابات بقانون معدل ورفضه الإمضاء عليه.
الجنازة الوطنية في تفاصيلها ورمزيتها مثلت في نظر شركاء تونس دفعة جديدة للانتقال السياسي الصحي والسلمي وحلقة نجاح أخرى بعد انتخابات 2011 والحوار الوطني في 2013 وانتخابات 2014 برغم كل المطبات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها تونس.
والحقيقة أن موكب الجنازة مثّل في جانب آخر استفتاء جديدا ليس على شعبية الرئيس بين أنصاره والتونسيين عموما، ولكن تأكيدا أيضا لنتائج الصندوق في 2014 وهو استفتاء رمزي سيكون له أثر على انتخابات 2019. وهذا أمر فاجأ الخصوم ووضعهم في مأزق غير متوقع وقد يكون دفع البعض من القوى السياسية الكبرى إلى إعادة التفكير في تقديم مرشحين للرئاسية واللجوء إلى خيار التوافق حول مرشح بعينه.
كما قد يكون السبب الذي حرّك بعض السياسيين لتبييض مواقفهم السابقة وعداواتهم مع الرئيس الراحل. ولكن في كل الأحوال الوفاة خلطت أوراقا كثيرة تحضيرا للسباق الانتخابي.
وثمة من يقول إن وفاة السبسي وإرثه السياسي تركا سقفا عاليا أمام المتنافسين على خلافته، ليتحول إلى محك نجح حتى الآن في أن يتلاعب بأسهم السياسيين الذين بدوا حتى وقت قريب أقرب ما يكون إلى كرسي الرئاسة ويرفع من أسهم آخرين ظلوا متوارين عن الأنظار.
وما يحصل اليوم يبدو متماهيا مع تلك المعادلة: تراجعت أسهم الرجل الأول في قصر القصبة (الحكومة) بينما صعدت شعبية وزير الدفاع عبدالكريم الزبيدي، الرجل الذي ظل قريبا من السبسي في أحلك أيام مرضه وظهر معه في آخر نشاط رئاسي قبل أيام من الوداع الأخير.