سعيد توفيق: الفلسفة تحتاج إلى تجديد لتنجح في مواجهة الخطاب السلفي

المفكر المصري يؤكد أن عبارة أسلمة العلوم متاجرة بالدين، وأن التطرف سيطغى بشكل أكبر، ما دامت المجتمعات بعيدة عن التعليم الجيّد والتفكير الخلاق.
الثلاثاء 2019/12/03
سعيد توفيق: إهمال الفلسفة يصيب العقل بالفراغ ويقدمه لقمة للمتطرفين

تزخر المكتبة العربية بإسهامات فلسفية تجاوزت حدودها العربية والإسلامية لتصل إلى العالمية، إلا أن هذا المنتوج العقلي والفكري ضاع وسط تأويلات سلفية تلغي العقل. واليوم تواجه الفلسفة، ما واجهته في الماضي، سواء في تاريخ الحضارة الإسلامية، أو تاريخ الحضارة الإنسانية ككل، من حيث الاتهام بالتجديف وحتى الكفر، نظرا إلى ما يمثّله إعمال العقل والتفكير الفلسفي القائم على التساؤل والبحث من خطر على التيارات الإسلامية التي تتوجه إلى العاطفة وتخشى العقل.

القاهرة – حملت كلمة الفلسفة في الذاكرة الجمعية للعالم العربي دلالات سلبية، من حيث اعتبارها تفكيرا طوباويا صاحِبه “يتفلسف”، بما لا يفهمه الناس. تعمقت هذه الدلالة خلال العقود الأخيرة مع تراجع أدوار الفلاسفة وابتعادهم عن الواقع، في وقت هم أكثر من يمثّل الفكر المضاد للفكر الديني الاستهلاكي غير المبني على ضوابط دقيقة وقواعد تحمي الجمهور المستهدف من السقوط في شرك التشدد وتحمي المجتمعات من آفة التطرف.

ويرجع الدكتور سعيد توفيق، أستاذ الفلسفة وعلم الجمال بجامعة القاهرة، إلى غياب صناعة الفلسفة، خصوصا في المجتمعات العربية. ويفسر ذلك بقوله لـ”العرب”، إن “معظم ما يتم تدريسه في الجامعات هو مجرد نقل لأقوال فلاسفة وليس أفكارا فلسفية لأساتذة أو أطروحات لنقد الفلسفة العالمية أو التراث”.

ويعدّ توفيق واحدا من الذين وضعوا أيديهم على أزمة الفلسفة العربية، وأنفق جلّ مشواره العلمي مهموما بتقهقر الفلسفة، ومكررا أن غياب الفلسفة العربية لا يصب إلا في صالح التطرف، معتبرا أن التيار السلفي بكافة فروعه وروافده هو العدو الأول للفلسفة، فالسلفية بشكل عام ترفض التأويل وتعادي العقل، وعلى مدى تاريخ المسلمين عانى المفكرون العظام من ويلات استخدام العقل في تحديث المجتمعات.

 والتقت “العرب” توفيق بمناسبة إصداره لسيرة ذاتية بعنوان “الخاطرات” استعرض فيها خبرات حياته وأفكاره وتحدّث عن علم الفلسفة الذي يعيش حالة من التدهور الواضح في الكثير من الجامعات العربية، مستثنيا بعض جامعات شمال أفريقيا.

غياب في صالح التطرف

غياب الفلسفة العربية لا يصب إلا في صالح التطرف
غياب الفلسفة العربية لا يصب إلا في صالح التطرف

يمثّل توفيق نموذجا فريدا للمفكرين المهتمين بفكرة التأويل وطرح التساؤلات والتبشير بالعقل في مواجهة الهموم الحياتية. وهو متخصص في علم الجمال، وحصل على درجة الماجيستير في فكر شوبنهاور ورؤيته للفن، ثم حصل على درجة الدكتوراه في الاتجاه الفيمنولوجي في تفسير الخبرة الجمالية.

وحصل على جائزة الدولة للتفوق في العلوم الاجتماعية بمصر منذ 12 عاما، ثم حصل في العام الحالي على جائزة الدولة التقديرية، وله 27 مؤلفا أبرزها “الخبرة الجمالية”، “عالمية الفن ومحليته”، “الفن تمثيلا”، “أزمة الإبداع في ثقافتنا المعاصرة”، ” السعادة.. تاريخ موجز”، “تجلي الجميل”، و”عالم الغيطاني”.

ويؤكد توفيق أن غياب الفلسفة يعني غياب الفهم، وغياب التأويل، ثم الحوار والتساؤل اللذين يؤديان في النهاية إلى الفهم، ما يمهّد الطريق للمتاجرين بالدين للتمدد والانطلاق. وقال، إن العقل عندما يصبح فارغا يتحول إلى لقمة سائغة للمتطرفين ليصبّوا فيه كل ما يحلو لهم من خزعبلات وأفكار تمهد الطريق للتطرف والإرهاب، ولا سبيل لمواجهة التطرف دون إحياء حقيقي لعلوم الفلسفة، ليس على مستوى المؤسسات الأكاديمية وحدها، وإنما بين النخب المثقفة والمجتمعات التعليمية أيضا.

يبدو الرجل دقيقا جدا في اختيار كلماته للتعبير عن آرائه، إذ يجنح إلى السكون خلال الحوار والذي يبدو فيه مفتشا عن كلمات لها مدلولات أقرب لطرح وتأييد وجهة نظره. ويعود بذاكرته إلى الماضي لينفض الغبار عن عهد كانت فيه الحضارة الإسلامية تعيش نهضتها، وفيها قامت حركة تأويل حقيقية بعد ترجمة أفكار كبار الفلاسفة، لتنتج مفكرين كبار أيضا في مجال الفلسفة مثل ابن رشد، وفي الصوفية مثل محيي الدين بن عربي، وفي علم الكلام الذي تميز فيه مفكرو المعتزلة.

لكن، يلفت توفيق إلى أن جميع هؤلاء المبدعين العظام واجهوا موجات من التكفير والتهديد من الأصولية السائدة والمعادية دوما للعقل والرافضة للتأويل. ومع مرور الوقت وتغيّر الأوضاع بهتت ملامح ذلك العصر وتراجع التفكير الفلسفي أمام المد السلفي، وتكررت الدعوى المغلوطة بأن الدين يرفض الفلسفة، وسُلّط سيف التكفير على كل فيلسوف فتح باب الاجتهاد وفكّر بشكل مختلف.

السلفية تعادي العقل

التسليم بكل نقل دون إمعان العقل فيه لا يُفضي إلى تطور وتفرد
التسليم بكل نقل دون إمعان العقل فيه لا يُفضي إلى تطور وتفرد

لم تكتف الأصولية الحاكمة للفكر في العالم العربي بخنق أي أفكار عقلانية أو أطروحات إبداعية بدعوى مخالفة الدين، وإنما سعت أيضا إلى وضع أختامها على كافة العلوم الاجتماعية والإنسانية المتنوعة، فصاغت مصطلحات مثيرة للعواطف الشعبية من قبيل الفن الإسلامي والإبداع الإسلامي والأدب الإسلامي، ثم بعد ذلك الاقتصاد الإسلامي، والسياسة الإسلامية، وغيرها من المسميات المستغلة لعواطف الناس.

لم يقتصر الأمر على ذلك، وإنما استغل البعض وجود آية كريمة في القرآن الكريم تقول، “وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ”، ليستغلوها في غير محلها ويصيغوا مفهوما غريبا سمّوه علم الجمال الإسلامي، وهو ما كان محل تحليل وتفنيد ونقد من سعيد توفيق، الذي يتحدى أن يكون هناك مفكر عظيم أو مبدع كبير تخرّج في مدرسة السلفية، في الماضي أو الحاضر، مكررا أن التسليم بكل نقل دون إمعان العقل فيه لا يُفضي إلى تطور وتفرد.

ويشير إلى أن مصطلح علم الجمال الإسلامي مصطلح خادع، وغير سليم ويدخل ضمن فكرة الاتجار بكلمة إسلامي وقرنها بأي إبداع أو إنجاز إنساني استغلالا لعواطف الناس. ويلفت إلى أنه تناول بالتحليل ما أطلق عليه مفهوم الجمال الإسلامي في كتاب خاص، وانتهى إلى تهافت المصطلح، وعلم الجمال بمفهومه الحديث لم ينشأ إلا في القرن الثامن عشر الميلادي.

 ويرى أن المقصود من مثل هذه المصطلحات، هو إسقاط إسهامات المفكرين العظام في العالم الغربي من أمثال شوبنهاور وجان بول سارتر، وغيرهم من الفلاسفة في العالم والتهوين بما قدموه للبشرية، وهذا توجه خبيث يحمل الكثير من التنكر والكراهية  للحضارة الغربية الحديثة.

ويضيف توفيق أن معظم المروجين لذلك المصطلح لا يفهمون في علم الجمال، ولم يدرسوه، وهم بإصرارهم على التبشير بهذا المصطلح يسيئون إلى علم الجمال، بل إلى الدين نفسه. ويقول إن العلوم جميعا لا يمكن تديينها، لأن العلم متغيّر ويقبل دائما النقد والتكذيب، في حين الدين مقدّس وثابت، والعبارة الشهيرة المكررة بأسلمة العلوم لا تعني سوى المتاجرة بالدين لتحقيق مكاسب تقتصر على المتاجرين.

ويشدد عل أن الدين لا ينطوي على نظريات علمية وإنما على دعوة للتعلم مثلما ينطوي على دعوات أخرى للتدبر والتفكر وللبناء والعمل، والتحلي بمكارم الأخلاق.

إذا كانت هناك نوايا سيئة لدى طارحي مفهوم علم الجمال الإسلامي، فإن هناك بسطاء ينساقون وراء كل لافتة دينية، مثلما هو الحال في أنصار الجماعات الراديكالية التي تتّخذ من الإسلام ستارا لها، ما يستلزم تنبّها ويقظة من جانب الدول والنخب والمجتمعات في مواجهة المد الأصولي الطاغي.

مواجهة التطرف

سيرة فلسفية
سيرة فلسفية

يوضح توفيق أن جانبا كبيرا من ظاهرة الإرهاب الديني مصطنع ومبالغ فيه، ويتم الترويج له بواسطة دوائر وأجهزة غربية لها مصالح وتوجهات معيّنة تدفعها إلى تعزيز وتشجيع الأفكار الحاكمة للظاهرة في العالم العربي، وليس من السهل القضاء على التطرف في المجتمعات العربية بالاعتماد على الحلول الأمنية وحدها. والتطرف سيطغى بشكل أكبر، ما دامت المجتمعات بعيدة عن التعليم الجيّد والتفكير الخلاق والتحرر في الإبداع والعلم.

ويتابع مؤكدا أن للحكومات دورا هاما في مواجهة التطرف بالإصلاح الديني أولا ثم بالتعليم الجيد الخلاق، القائم على تحرير العقل والاستفادة من منجزات الحضارة الغربية دون تعصب أو عداء. ويلفت إلى أنه لن يتم قهر ظاهرة الإرهاب وما يتبعها من ظواهر، مثل التعصب والطائفية ورفض الآخر مستقبليا، إلا بتحرر الوعي وتحديث التعليم وترسيخ أسس التنوير، وهو ما يضع أقدام الشعوب على بدايات طريق النهضة.

ينهي توفيق الحوار متحدّثا عن إصداره الأخير، قائلا إن الخاطرات ليست سيرة ذاتية وإنما سيرة فلسفية، وهي لا تتناول تفاصيل الحياة الشخصية مرتبة أو متراتبة، فالذات ليست مناط الأمر في السيرة، والشخص ليس البطل وإنما البطولة للفكر وللشعور، والخاطرات جمع خاطرة، لكنها تختلف عن الخواطر في كونها ما يخطر على الذهن ويخضع الخاطرة للتأمل.

ويلفت إلى أنه سعى إلى تطبيق الفيمنولوجيا بشكل نموذجي في سيرته، بمعنى بحث خبراته المتراكمة في تفاصيلها شعوريا من خلال استقراء الأحداث والمواقف والشخوص الذين مرّ بهم في حياته فلسفيا.

يعكف توفيق حاليا على استكمال مشروعه لترجمة نصوص شوبنهاور إلى العربية مع تقديم شروح لها، واستغرق نحو 12 عاما في ترجمة ما يماثل ثلثي نصوص الفيلسوف الألماني، وتم تقديمها في عدة كتب، لكن ما زالت هناك نصوص أخرى قيد الترجمة. وهو يؤمن بمقولة شوبنهاور “الحياة قصيرة، لكن الحقيقة لها تأثير بعيد وعمر مديد”.

12