سعيد الكفراوي: أنا من جيل الوثبة المضادة

الأحد 2016/06/19
عوالم الكتابة الأدبية الجديدة تخرج من بطن العالم القديم بميلاد جديد في دورة الميلاد والموت

القاهرة - مع هذا القاص العنيد، دائماً ما ترى الأشياء بعين من يكتب عنهم. حكي لا ينقطع، وكل شيء له أصوله، منذ طفولة غاربة وحتى رحيل مؤجل، وتاريخ يطرح أسئلة لا تنقطع.. جدل الحياة والموت والقرية والمدينة والواقع والأسطورة والمكان والزمان؛ جدليات تمثل جرحه السري بين قرية غاربة يسعى للحفاظ عليها ولو من كل عام يوم، وذاكرة في واقع يتهدده العدم.

اثنتا عشرة مجموعة قصصية جعلت القاص المصري سعيد الكفراوي أحد شيوخ القصة القصيرة في أدبنا العربي الحديث، بداية من “مدينة الموت الجميل”، مرورًا بـ”ستر العورة”، و”سدرة المنتهى”، و”دوائر من حنين”، وغيرها من المجموعات القصصية المتميزة. في قصة “قصاص الأثر” يصرخ بطلها باللوعة والحنين “غايتي أن أستحوذ على زمن يضيع″، وبين الزمن الضائع والمكان وناسه وأسئلته، تبدو الكتابة عند هذا القاص “مثل الجرح ولكنه جرح لا ينسى”.

جائزة الدولة

عقب فوزه مؤخرًا ومتأخرًا بجائزة الدولة التقديرية في الآداب، سألناه ما الذي يمثله لك الفوز بمثل هذه الجائزة بعد هذا المشوار الطويل مع الكتابة، يجيب الكفراوي “أنتمي لجيل حصل على هذه الجائزة منذ زمن، محمد عفيفي مطر وإبراهيم أصلان والبساطي ومستجاب وغيرهم. أنا وعبر كل السنين لم يحاول أحدهم الاقتراب مني. أرجعت ذلك للصرخة المرعبة (إن الزمن زمن الرواية)، وأنا قاص معدوم العافية، وخالي الوفاض من الروايات”.

ويتابع الكفراوي “صبرتُ، وغرقت في القصص، وكتبت القصة باعتبارها الشكل الأمثل للتعبير عن تجربتي، حتى جاء أحدهم وأخبرني أنهم أعطوني جائزة الدولة في الأدب”. صمت قليلًا ثم قال “تصوري عدد كثير من أعضاء اللجنة كانوا يعتقدون أنني حصلت عليها. وأنا قلت أن تأتي متأخرًا خير من ألا تأتي. عشت حياتي بقلق، لا أنظر خارج ما أكتبه من قصص. أعيش بارتياب لما يجري حولي . تفرغت تمامًا لأنتمي للشكل الذي انتميت إليه، وبالتالي مر العمر تباعًا وأنا أعيش بين متعتين هما قراءة الكتب وكتابة القصة القصيرة”.

جدل الحياة والموت

ويرى الكفراوي أن الجوائز التي تمنحها الدولة أو تمنحها المؤسسات الخاصة، في غاية الأهمية، هي حالة امتنان لرجل أمضى حياته منكفئا على الورق، مستطردًا “تمنيت دائمًا أن تنزع كل الجوائز ناحية النزاهة والموضوعية، وتبتعد عن شروط السوق. الجوائز مهمة ليس لقيمتها المادية فقط، تلك القيمة التي تجعل الكاتب يلتقط أنفاسه ويكون قادرًا على مواجهة هوائه اليومي. كما أن الجوائز مهمة في لفت انتباه الإعلامي لكاتب يكتب من ‘قبل الميلاد’ ولا يعرفه أحد. ارتفعت قيمة الجوائز المادية، واعتبرت في بعض الدول دعمًا لثقافة بلادها، وجزءًا من سياستها”.

عوالم مدهشة

على مدى علاقته بالكتابة، خاض الكفراوي عوالم مدهشة على نحو ما، وبسؤاله هل من عوالم جديدة تخطط لخوضها في المستقبل؟ يقول الكفراوي “رحم الله كبير المقام غارسيا ماركيز الذي عاش عمره يتجول عند تخوم ‘ماكندو’، ونجيب محفوظ الذي لم يغادر ‘الجمالية’ أبدًا، وكتب بها عالمه الذي وصفه يومًا بأنه يوفق بين الطاقة وشغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنانه القديم إلى الخيال. الكاتب يكتب ما كتبه الآخرون ولكن بشكل آخر، لا جديد في الكتابة، الجديد هو الكاتب، وأنا أقيم في هذه المنطقة من الكتابة، تنطبق عليّ مقولة كافكا ‘ماذا يجذبني إلى هذه الأرض المهجورة سوى الرغبة في أن أمكث هنا؟’. كل الجديد ينبع من هنا حيث التجربة والبشر والاحتمالات، العوالم الجديدة تخرج من بطن العالم القديم بميلاد جديد في دورة شغفت بها هي دورة الميلاد والموت”.

زمن الرواية

يهجر الكثير من الكتاب كتابة القصة إلى الرواية، ويعتبرونها تمهيدًا لكتابة الرواية، في الوقت الذي لا زال فيه الكفراوي متمسكًا بموقفه في كتابة القصة القصيرة، وعن سبب عزوفه عن كتابة الرواية يقول الكفراوي “بعض الكتاب يعتبرون القصة استراحة ما بين رواية ورواية. عصفت باختيار شكل الكتابة صرخة الوحش (الزمن زمن الرواية) زمن خيبات الرجاء وضياع الأوطان والصلح مع العدو، وانتعاش الفكر اللاهوتي. الأمة تعيش زمن انهيارها العظيم. أنا حاولت الدخول لعالم الرواية الزاخر بنية مسبقة؛ أن أكتب رواية لم يكتبها أحد، ولكنها لم تُكتب. لا أحد يدخل من باب الكتابة بتلك النوايا، والكتابة عليك في التعامل معها أن تتواضع لكي تعطيك نفسها!”.

ويستطرد الكفراوي “رحم الله فرناندو بيسوا الذي قال ‘أنتمي لجيل ورث الارتياب’، وأنا دائمًا أرتاب في الشائع والذائع، وبطل شباك التذاكر، والخفاء منجاة في زمن كثر ضجيجه حتى طفت جثث كثيرة على سطح الموج. منذ مارست الكتابة وأنا أرى في القصة القصيرة الشكل الأمثل للتعبير عما أكتبه، آمنت بأنها مثل النبوءة وهي شقيقة الشعر، وناسها من الجماعات المهمشة، هؤلاء الذين عاشوا غوائل الزمن وانكسرت أرواحهم، الساعين دومًا لخلاص مؤجل طوال العمر”، ويتابع “هل سأكتب رواية؟ ربما نعم وربما لا. يتمنى صديقي الناقد صبحي حديدي ألا أفعلها. ويصرخ في وجهي ‘ركز فيما تجيده’، وأنا حتى الآن لا أقدر أن أعصي له أمرًا”.

الكتابة عند الكفرواوي مثل "الجرح ولكنه جرح لا يُنسى"

وثبة مضادة

وفيما يتعلق بالتجريب وما أضافه لتجربة سعيد الكفراوي القصصية، يوضح الكفراوي أنه ينتمي لجيل يمثل وثبة مضادة في كتابة الأدب كان آخرها ما صنعه يوسف إدريس وصبري موسى وإدوار الخراط من تطوير، فجاء جيله في ستينات القرن العشرين وعبر مجلة “جاليري 68” الطليعية ومن خلالها حدث اختراق للموروث، والثابت التقليدي، وتطورت التقنيات من شكل الحدوتة القديم إلى أشكال طورت دلالات الواقع، وحولت العادي إلى استثنائي، واكتملت تيارات الكتابة التي قسمها الراحل إدوار الخراط إلى تيار التشيؤ والتيار الداخلي وتيار استيحاء التراث وتيار الواقعية الجديدة.

وفيما يتعلق بفن القصة القصيرة جدًا يرى الكفراوي أنها شكل فني يلبي دوافع وفضاء الكتاب الشباب، مستطردًا “أنا واحد ممن ينظرون للقصة القصيرة باعتبارها سعيًا للمعرفة ومواجهة لأهوال الحياة والموت، وأنها الشكل القادر على التفرد، القصة القصيرة جدًا بشكلها الراهن لا تلبّي ما أسعى إليه من معنى، وفي أحيان كثيرة أنظر إليها باعتبارها نكتة، وأنظر إلى أغلب كتابها باعتبارهم هاربين من كتابة قصة حقيقية”.

ويوضح “تكتب القصة القصيرة جدًا بشكل المفارقة وبقصد إحداث صدمة ودهشة لدى المتلقّي، أغلب ما كتب في هذا الشكل لا يثيرني على الإطلاق، وهو في الحقيقة ليس إضافة ولا تجديدا للقصة الحديثة، فأنا اعتبره تمهيدًا أو تجهيزًا أو كتابة في وقت الفراغ للدخول في كتابة قصة قصيرة حقيقية، والتي يكون معيارها ما كتبه بورخس وهيمنغواي وكافكا ويوسف إدريس”.

وفيما يتعلق بمستقبل فن القصة القصيرة جدا، يقول الكفراوي “هي حديثة الكتابة لم تدخل بعد مختبر الزمن، فلننتظر لنرى إلى أيّ شطآن ستصل، فالمسألة أعقد مما يكتب تحت مسمى القصة القصيرة جدًا في الوقت الراهن”.

جدليات الجرح السري

أزمات طاحنة

وعن توصيفه للمشهد الثقافي الراهن في مصر يقول الكفراوي “المشهد يتصف بقلة القيمة، ويخضع لمقولة ‘أوزبورن: انظر وراءك في غضب’. تعيش مصر أزمتها الطاحنة وتسعى بكل الطرق للخلاص من تلك الأزمة. كل الأزمنة تتصارع الآن بلا رحمة على أرض مصر وهي تحاول من خلال تاريخها الممتد أن تقاوم ما يجري ويقع بلا رحمة. الثقافة الأكثر معاناة وتدفع ثمنا فادحًا”.

ويستكمل الكفراوي حديثه قائلًا “الشرفة التي كان يطل منها طه حسين والعقاد وسلامة موسى وغيرهم تغرقها الآن معارك المثقفين الصغيرة، والفتاوى التي تتمسّح بالدين، والتطرف المرعب، وشعار التكفير المعلن والقامع، وغياب الدور الثقافي ودور الجامعة التنويري، وسطوة الإعلام المغيب للوعي. وسط كل هذا نجد الكثير من الروايات الخلاقة وقصائد الشعر المدهشة وحركة الموسيقى والمسرح الجديدة. كله يتجاور بحثًا عن حرية وفعل حرية”.

غياب المنابر

وفيما يتعلق بالحالة النقدية وخاصة المتعلقة بالقصة القصيرة، يلفت الكفراوي إلى أن النقد في زمن الرواد كان يؤسس لتيارات الكتابة، ويحتفي بتقديم مذاهب الكتابة الكبرى في العالم، مثل ما أسسه طه حسين في مجلة “الكاتب المصري” وما صنعه محمد مندور ولويس عوض وعبدالرحمن بدوي وإدوار الخراط.

ويضيف “تغيب المنابر، ونعاني من طفح ما يغمر الساحة من سطوة الإعلام المغيّب للوعي، لكن ما زال هناك من يبدع وينقد بالرغم من سوء المناخ، مثل عبد الفتاح كيليطو ومحمد برادة وصلاح فضل وجابر عصفور وإبراهيم فتحي وبعض المستنيرين في الصحافة الثقافية. كان حظي طيبًا فلقد كتب عن تجربتي أساتذتي وهم كثر، وشرفني بالكتابة شكري عياد وعلي الراعي وصبحي حديدي وأحمد المديني وإدوار الخراط وصلاح فضل وغيرهم”.

كاتبة من مصر

14