سعد محمد رحيم: الرقيب صار آلية داخلية مقاومة للإبداع

“كل كتاب نقرأه يحدث في دواخلنا تغيرا بقدر ما وإن كان ضئيلا، غير أن هناك كتبا لها فعل الزلزال فينا؛ يجعلنا نؤمن بشيء ما. أو يفتك بإيماننا بشيء ما اعتقدناه راسخا إلى الأبد. يضعنا على عتبة مغايرة، ويحوّل أقدارنا”.. هذا هو ما يؤمن به القاص والروائي العراقي سعد محمد رحيم، الذي يؤكد في بداية حديثنا معه، أنه لا يستعجل نشر أعماله الأدبية سواء القصصية منها أو الروائية، مشيرا إلى أن له مجموعة قصصية منجزة بعنوان “مساء عاطل”، وروايتين هما “مقتل بائع الكتب” و”ضفاف الرغبة” كتبهما خلال الست سنوات الأخيرة، وهو يأمل أن ينشر الأولى منهما قريبا، مبينا أنه في الكتابة الروائية يتأنى كثيرا.
يقول رحيم “أراجع وأحذف وأضيف العشرات من المرات، أعيش معها وساوسي الخاصة، ولا أقتنع سريعا.. عليّ أن أهتم باللغة، والأسلوب وبناء الشخصيات ورسم المشاهد والأحداث، بدقة، لذا لا أستعجل النشر. رواياتي هي ما أعوّل على بقائها بعدي، في نهاية المطاف”.
زوايا خفية
عن الهواجس التي تحرك قلمه، ولماذا يكتب؟ وما الذي ينتظره من الكتابة؟ يقول ضيفنا “هواجس شتى تحرِّكني وتدفعني للكتابة. هاجس فهم وضع العالم المقلق، لا سيما هنا في عالمنا العربي والشرق الأوسطي الآن، هاجس المصير الإنساني عموما. هواجس الحب والحرية والموت، هاجس تأكيد الذات، هاجس أن يكون لحياتي معنى، هاجس اللعب الإبداعي وخلق الجمال. كتبت شيئا في حقل الفكر واقتربت قليلا من الفلسفة، وغامرت أحيانا على تخوم النقد الأدبي، لكني بقيت أبدا أرى العالم من منظور سارد، وأتمثله بهاجس روائي. الرواية أكثر فنون التعبير الإنساني قدرة على تصوير المغامرة الإنسانية، والمأزق الوجودي للإنسان. وهي أصدق، حتى وهي تتوسل بالخيال، في تمثيل الحقيقة، من كتب التاريخ والسياسة.. فالرواية تنفذ إلى الزوايا الخفية من الحياة والنفس البشرية، وتعبر إلى تلك المساحات الملتبسة والمعقّدة من الوجود التي هي ملكية خاصة لها. من لا يقرأ الروايات سيظل فهمه للأشياء، وحركة العالم، وروح العصر، قاصرا ومثلوما”.
|
وعما إذا كانت هناك خطوط حمراء يتوقف أمامها عند كتابة أي عمل جديد، وكيف يتعامل مع الرقيب الداخلي أثناء الكتابة؟ يقول سعد محمد رحيم “في عالمنا العربي يكذب من يقول لك إنه يكتب من غير أن يبالي بالرقيب الداخلي أو الخارجي. ونتيجة الضغط النفسي والخوف المستديم يتحول هذا الرقيب إلى آلية نفسية مقاومة للإبداع والتفكير الحر. يبقى كم نستطيع أن نراوغ ذلك الرقيب ونحد من غلوائه وعنجهيته وكتمه للأنفاس، وأن نقول ما نعتقد أنه الصواب والحق. تبقى المشكلة العويصة في ما يتعلق بالجنس والدين. الحياة الجنسية إشكالية إنسانية وجودية قائمة، والتعاطي معها في الأدب يحتاج إلى رؤية عصرية ناضجة، وأن نكتب في ثيمة الجنس لا يعني أن نحوّل كتابتنا إلى ‘بورنو’ وأدب سطحي للإثارة الرخيصة، ومشاهد مفتعلة ومقحمة على النص تنبئ أحيانا عن محاولة تعويض كاتبها عن شعور بالنقص والحرمان”.
يتابع “شخصيا أحاول الإمساك بشعرية العلاقة الجنسية، وبدلالاتها الإنسانية العميقة.. أما ما يتعلق بالدين فهنا الطامة الكبرى.. لا سيما مع وجود أفراد ومؤسسات يستندون إلى تأويلات ضيقة، ويؤمنون أن أي خروج على تصوّراتهم المحدودة هو خروج على جوهر الدين وقيم المجتمع. وأنْ تصوِّر رجل دين سيئا أو منافقا في رواية، وأن تنتقد اجتهادا فقهيا مغاليا لا يعني أنك عدو للدين”.
وبسؤاله إلى أيّ مدى تخـتلف تقنـيات كتـابة الرواية عن القـصة لا سيـما أنّ ضيفنا يكـتب هـذين الجنسين الأدبيين؟ وهل يفكر بالانفتاح على أجناس أدبية أخرى وطرق أبواب تعبير مغايرة؟ يجيب الكاتب “القصة والرواية، هما عندي منطقة واحدة. كلاهما ينتمي للعائلة السردية، لجغرافية السرد، وكلاهما يشترك بعناصر رئيسة؛ الشخصيات والزمان والمكان والوصف مع الحبكة والعقدة والحل، إلخ. وهذه العناصر، لا سيما الثلاثة الأخيرة منها، تعرضت للتفتيت وجرى اللعب بها وتحويرها وتجاوزها عند كتّاب الحداثة. الاشتراك بالعناصر لا يعني أن القصة رواية مختزلة وأن الرواية قصة ممطوطة. هناك من النقاد من يرى الفرق فقط في طول الشريط اللغوي. أعتقد أن الفرق أيضا في كيفية تناول الموضوعة السردية. في الرؤية إلى العالم. في الأسلوب وزاوية النظر وفي التعامل مع اللغة. وهذه مع غيرها مسائل دقيقة ليس من السهل تأشيرها. لكن الروائي الحاذق يدركها بالحدس، بالمران، بمعرفة قوانين الصنعة القصصية والروائية واستبطانها”.
|
يتابع صاحب “تحريض” قائلا “الرواية مغرية، أرض واسعة حرة ومفتوحة يمكنها استضافة أنواع وأشكال مختلفة. ليس للرواية قالب أو قوالب محددة، أو قواعد نهائية بل إن الروائي البارع يستطيع أن يبتكر قواعد جديدة لها. أحيانا تغدو كتابة قصة قصيرة جيدة أصعب من كتابة رواية. القصة مملكة فن بامتياز. غير أن الرواية بحاجة إلى ثقافة أوسع، إلى رؤية أعمق وأنضج، إلى النفس الطويل، إلى الصبر وإلى القدرة على التحكم بمساحات كبيرة تتعلق باللغة والتكنيك والتجربة البشرية والتاريخ والفلسفة، إلخ. وكلا الجنسين الأدبيين يمتلك من المساحة ومن الممكنات، ما يغنيني، شخصيا، عن الولوج إلى حقول أدبية أخرى”.
الهرب إلى الرواية
يفسر سعد محمد رحيم توجّه عدد هام من الشعراء وكتّاب القصة العرب المعاصرين إلى كتابة الرواية بأن الهرب إلى هذا الجنس الأدبي أول أسبابه هو تراجع أهمية الشعر والقصة في سوق الأدب، ومن ثم الجوائز الدسمة المخصصة للرواية، وكذلك انعدام النقد الذي يضع حدا قاسيا ويفضح الأعمال غير المستوفية لشروط الكتابة الروائية. علاوة على سهولة النشر وانخفاض مستوى المعايير عند دور النشر الباحثة عن الربح وحده. وقطعا أن هناك أسبابا أخرى.
صدر لمحاورنا في العام 2014 كتاب نقدي بعنوان “سحر السّرد.. دراسات في الفنون السّردية” عن دار نينوى بدمشق، وهنا تسأله “العرب” ما الذي ورطه في الكتابة النقديّة وما الذي يدفعه إلى ذلك أساسا؟ ليجيب “لست دخيلا على الحقل النقدي، على الرغم من أنني لا أعد نفسي ناقدا محترفا.. لي آراء في الفنون السردية، ومقارباتي تغترف من منابع منهجية عديدة من غير أن تكون أكاديمية صارمة، فهي غالبا تكون مطعّمة بانطباعاتي الخاصة.. هي قراءات تحاول وضع النصوص في سياقها الثقافي، والتحري عن تميزها الشكلي، ودلالاتها الغائرة”.
يتابع “النص السردي بديل جمالي ومعرفي في آن معا عن الكتابة التقليدية للتاريخ. يشكك النص السردي بما ورثناه وما عرفناه من تفاصيل اعتقدنا طويلا أنها حقائق واقعية تاريخية دامغة، بحثا عما يتضمن من أفق دلالي مغاير وثري. فالسرديات لا سيما الرواية تزاحم اليوم كتب التاريخ. وشخصيا أعرف تواريخ بلدان وقارات من خلال الروايات أكثر مما أعرفها من مجلدات التاريخ. فعلى سبيل المثال أستطيع الكلام طويلا عن واقع وتاريخ أميركا اللاتينية مثلما عرفتها من خلال روايات ماركيز وإيزابيل الليندي وأستورياس ويوسا وخوان رولفو وغيرهم.