سعد زغلول في مرآة نجيب محفوظ يحاكم عبدالناصر والسادات

الأغنياء يكرهون الثورة أكثر مما يكرهون الاحتلال.
الأحد 2024/01/28
الزعامة هبة ربانية وغريزة شعبية

ما زال اسم الزعيم المصري سعد زغلول يتردد صداه إلى اليوم في مصر بصفته من أكثر الشخصيات المؤثرة في صناعة تاريخ مصر الحديث، ويؤكد مكانة الزعيم السياسي ما كتبه عنه الروائي المصري نجيب محفوظ في أكثر من مناسبة، حتى أنه كان يعتبره معيارا لحب الناس والريادة.

لم ير نجيب محفوظ الزعيم سعد زغلول أبدًا في حياته، رغم أن الزعيم توفي عام 1927 وعمر محفوظ حوالي 16 عاما، غير أن محفوظ آمن بالرجل وبجهوده وإخلاصه وحكمته، وكان يقول “سعد زغلول أكثر زعماء مصر المعاصرين قربًا من نفسي رغم أنني لم أره رأي العين”.

ويؤكد محفوظ أن يوم جنازة سعد زغلول من الأيام التي لا ينساها أبدًا؛ قال “خرجتُ مع شلة العباسية وانتظرنا موكب الجنازة في ميدان الأوبرا. كان المنظرُ مهيبًا، وسرنا على الأقدام مع الجماهير الحاشدة التي رفعت نعش الزعيم على أكتافها حتى مدافن الإمام”.

الزعيم المحبوب

يقول محفوظ لرجاء النقاش في كتاب “صفحات من مذكرات نجيب محفوظ”: “الحزنُ كان شاملا في جنازة سعد زغلول من كل الفئات والطبقات والأحزاب، وكان الحزنُ صادقًا وعميقا، فقد مات سعد وهو زعيم الأمة كلها والأب الروحي لها. لا أبالغ إذا قلت إنه لا يوجد زعيم في تاريخ مصر أحبَّه الناس حبًّا صادقًا خالصًا مثل سعد زغلول. لقد كان الناس يحبونه إلى درجة العبادة، وينزلونه منزلة التقديس والإجلال. ولا أنسى أبدًا منظر الناس في جنازته وهي تبكي بطريقة هستيرية غريبة، ولا منظر السيدات وهنَّ يصرخن بأصوات مرتفعة من شرفات المنازل”.

وفي حواره مع نبيل فرج (العدد 2751 بجريدة “البعث” الصادر بتاريخ 28 فبراير 1972) يقول محفوظ “نشأنا في ظروف ثورة 1919 إذ شبّت الثورة وعمري نحو سبع سنوات، ففرض علينا هذا الحدث الضخم نوعًا من الوعي السياسي منذ هذه السن المبكرة. بدأت في شكل أخبار أسطورية، ثم أخذتُ أتابع الأخبار السياسية باهتمام خاص عن طريق الصحف، بدءا من عام 1926 وأنا في السنة الأولى الثانوية. وكان الباعثُ أن أتابع الحوار الذي يجري في مجلس النواب بين رئيسه في ذلك الوقت سعد زغلول وبين الأعضاء”.

لذا نرى اسم سعد زغلول يتكرر كثيرا في أعمال نجيب محفوظ وحواراته ورواياته وقصصه ومقالاته، بل إن البعض كان يصنِّف محفوظ بأنه من يسار حزب الوفد، على الرغم من أن صاحب “أولاد حارتنا” لم ينتمِ إلى أي حزب.

لا يوجد زعيم في تاريخ مصر أحبَّه الناس حبا صادقا خالصا مثل سعد زغلول؛ كانوا يحبونه إلى درجة التقديس

ومنها على سبيل المثال ما جاء في “حكايات حارتنا”: “ماذا يحدث للدنيا؟ ظل الطفل يسأل نفسه، وهو يطل من سور سطح منزل الحسين، الأعلام ترفرف فوق الدكاكين، وصور سعد زغلول تلتصق بالجدران، الحارة يجتاحها طوفان، يقلقها زلزال، تشتعل بأطرافها النيران.. يسقط الاحتلال.. سعد.. يحيا سعد، الأمر غريب، لم يقع ذلك من قبل، لكنه كحلم مثير لا يُصدق”.

وسنرى أن الشعارات السياسية المتصلة بالزعيم سعد زغلول تردَّدت كثيرا في أعمال محفوظ، ولعل شعار “سعد سعد يحيا سعد” وشعار “يحيا الهلال مع الصليب” تكررا في أكثر من عمل، وخاصة في رواية “بين القصرين”، ولعل استشهاد “فهمي” كان الحدث البارز في هذه الرواية.

ويحضر سعد زغلول بقوة في باقي روايات محفوظ، فهو الزعيم المحبوب الذي يحبه الجميع ويسيرون وراءه.

ويذكر محفوظ أن لصوص مصر ونشالوها تعاهدوا يوم عودة الزعيم الخالد سعد زغلول من منفاه على الكفِّ عن ارتكاب أي جريمة في ذلك اليوم، ومر اليوم بسلام رغم خلو البيوت من سكانها واكتظاظ الشوارع بالعباد.

حوار مع الحكّام

في كتابه “أمام العرش – حوار بين الحكَّام” الذي يعرض محاكمات زعماء مصر، نادى حورس: سعد زغلول. فدخل رجل طويل القامة، مهيب الطلعة، قوي القسمات، جذاب الملامح، وتقدم في سيره حتى مثَل أمام العرش. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: ولدت في إبيانة، درست في الأزهر، تتلمذت على جمال الدين الأفغاني، عملتُ محررًا بالوقائع المصرية تحت رئاسة وأستاذية محمد عبده، انضممت إلى العرابيين في ثورتهم، وفي أول عهد الاحتلال البريطاني اعتُقلت كعضو في جمعية الانتقام وفُصلت من وظيفتي، وعملتُ في المحاماة، فالقضاء.

 اخِترت وزيرًا للمعارف، ثم وزيرًا للعدل، وعقب انتهاء الحرب العظمى الأولى وإعلان الهدنة توليتُ زعامة الحركة الوطنية، وأقمتها على أساس متين من الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين، وناديت بحق مصر في الحرية والاستقلال؛ فقبضتْ عليَّ السلطات البريطانية، ونفَتني إلى جزيرة مالطة، وما إن ذاع الخبر حتى قامت الثورة الشعبية احتجاجًا على نفيي ومطالِبة بالاستقلال، مما اضطر إنجلترا إلى الإفراج عني، وسافرت مع أعضاء الوفد إلى باريس لعرض قضيتنا على مؤتمر الصُّلح، فأغلق أبوابه في وجوهنا، ودخلنا في مفاوضات مع الإنجليز دون نتيجة، وحدث انقسام في الوفد، ورجعت إلى مصر، ثم نُفيت مرةً أخرى إلى جزر سيشل في المحيط الهندي، ولم يُفرج عني إلا سنة 1923. وتوليت الوزارة سنة 1924 بعد انتخابات شعبية، ودخلت في المفاوضات التي سرعان ما فشلت، واضطِررت إلى الاستقالة عقب اغتيال أحد كبار الإنجليز، ثم ائتلفَت الأحزاب أمام دكتاتورية الملك، وتوليتُ رئاسة مجلس النواب، تاركًا رئاسة الوزارة للدستوريين، ودارت المفاوضات من جديد ولكني غادرت الدنيا قبل أن أعرف نتائجها.

وتكلم أبنوم فقال: لقد قمتُ أنا بأول ثورة شعبية في نهاية الدولة القديمة، وقمتَ أنت بالثورة الشعبية الثانية بعد آلاف السنين، فأنت أخي وخليفتي وحبيبي.

فقال الملك خوفو: ثمة فرق بين الثورتين يجب أن يُذكر، وهو أن ثورة أبنوم كانت ثورة العامة على الصفوة، أما ثورة سعد زغلول فكانت ثورة شعب مصر كله، فقراء وأغنياء على الاحتلال الأجنبي.

نجيب محفوظ يخلق احتكاكًا وجدلا وحوارا سياسيا عميقا بين سعد زغلول وجمال عبدالناصر والسادات والحكام الفراعنة

فقال أبنوم: أعتقد أن الأغنياء لا يحبون الثورة.

فقال سعد زغلول: حرصتُ من أول الأمر على الاتحاد كقوة لا غنى عنها أمام العدو، ولكن ثبت لي أن الأغنياء يكرهون الثورة أكثر مما يكرهون الاحتلال.

فقال أبنوم: كان يجب أن تتخلص منهم.

فقال سعد زغلول: لقد انشقوا عليَّ راسمين لأنفسهم طريقًا إلى الاستقلال يناسب رؤيتهم.

وقال الملك مينا: لقد وحَّدتَ المصريين كما وحدتُ أنا مملكتهم، فأنت في ذلك صديقي وخليفتي.

وسأله أمحتب وزير الملك زوسر: رغم ما ثبت لك من زعامة بعد الثورة، فإنك قبلت العمل في ظل الاحتلال قبل الثورة، ولم تنضم للحزب الوطني، ما تفسير ذلك؟

فقال سعد زغلول: كان الحزب الوطني يدعو إلى مبادئ خيالية، من ذلك أنه لا مفاوضة إلا بعد الجلاء، مما يعني بقاء الاحتلال إلى الأبد، ومنه مقاطعة الوظائف العامة لهيمنة الإنجليز عليها، ولا يكفي في نظري أن تطالب الناس بسلوك معين، ولكن يجب أن يكون هذا السلوك ممكنًا دون تهاون أو إجحاف، وأن يصلح للتطبيق العام، وقد استطاع مصطفى كامل مقاطعة الوظائف بما كان يمده الخديوي وغيره به من مال، واستطاع محمد فريد ذلك لثرائه الواسع، ولكن ماذا يصنع أتباع الحزب؟ إن اتبعوا مثل زعامتهم هلكوا، وإن خالفوها مضطرين خانوا العهد، فكيف يدعو أناس إلى ذلك المبدأ المتعالي الذي يعز على التطبيق، ويورث الشعور بالإثم؟ ثم كيف نترك الوظائف العامة للأجانب؟

وقد قبلتُ الحياة الرسمية لأمارس من خلالها ما استطعته من مقاومة، ومن أداء خدمات لوطني كان في أشد الحاجة إليها، وقد اعترف بذلك خصومي قبل أصدقائي!

فقال أوزوريس مُخاطبًا الجميع: أعمال هذا الزعيم مدونة في الكتاب لمن يريد أن يطلع عليها، ولكنا في هذه المحكمة لا نناقش إلا الأعمال الفاصلة، ثم خاطب سعد قائلا: زعم خصومك أن الثورة قامت وأنت في المنفى، وأنك لم تفعل شيئًا لإشعالها، بل إنك دهشتَ لقيامها كحدث غير متوقع، فما قولك في ذلك؟

فقال سعد زغلول: كانت حال البلاد تدعو لليأس، وأعترف بأنني دهشت لقيام الثورة كما دهش الزعيم السابق لي، وهو محمد فريد، ولكني لم أقصر في تهيئة الجو لها بالخطابة لدى كل مناسبة والاجتماع بالناس في بيتي، وفي دعوة الناس في الريف والمدن لتأييدي في موقفي، مما عبَّأ الشعور القومي، والثورة قامت احتجاجًا على نفيي، فكان شخصي في الواقع هو مشعلها المباشر.

سعد زغلول يحضر بقوة في روايات محفوظ ونصوص أخرى فهو الزعيم المحبوب الذي يحبه الجميع ويسيرون وراءه

فقال أبنوم: الموقف الخطير يتطلب عادة سلوكًا معيَّنًا، والزعيم القادر هو من يستطيع أن يكون القدوة لهذا السلوك، وقد كان الموقف يحتاج إلى التضحية، فهي أقصى ما يستطيع شعبٌ أعزل أن يقدمه حيال قوة قاهرة، ولما تحدَّى سعد العدو واضطره إلى نفيه أعطى هذه القدرة المطلوبة، ففعل الشعب مثله، وقامت الثورة، وما يشهد لسعد بالعظمة أنه أقبل على التضحية وهو يائس من ثورة تحميه أو تدافع عنه، فكانت تضحيته كاملة، شجاعة نبيلة لا أمل لها في أي نوع من النجاة، ولو كان يأمل في ثورة لقلَّل ذلك درجة من ضخامة تضحيته!

فقال أوزوريس: وقيل أيضًا إن تعصبك لزعامتك هو ما اضطر العقلاء من معاونيك إلى الانشقاق عليك، فما قولك في ذلك؟

فقال سعد زغلول: المسألة أنني اندمجت في الثورة، وآمنت بها، ووجدت فيها ضالتي التي كنت أبحث عنها طوال حياتي، أما العقلاء فقد كرهوا الثورة وخافوها وقنعوا بالحلول الزائفة، كانوا ذوي مال وخبرة وحنكة، ولكن وطنيتهم لم تكن خالصة، كما كان إيمانهم بالشعب معدوما.

فقال أوزوريس: وقال بعض أعوانك إنه كان يجب أن تبقى على رأس الثورة، ولا تقبل رياسة الوزارة؟

فقال سعد زغلول: كانت وزارتي امتدادًا للثورة على المستوى الرسمي!

فقال أبنوم: كنت أفضِّل أن تأخذ برأي أولئك الأعوان!

وهنا قالت إيزيس: لتبارك الآلهة هذا الابن العظيم البار، الذي برهن على أن شعب مصر قوة لا تُقهر ولا تموت.

وقال أوزوريس: إنك أول مصري يتولى الحكم منذ العهد الفرعوني، وتوليته بإرادة الشعب، من أجل ذلك أهبك حق الجلوس بين الخالدين من أجدادك حتى تنتهي المحاكمة، ثم تمضي بسلام إلى محكمتك مصحوبًا بتزكيتنا وصادق أمانينا.

واتخذ سعد زغلول مجلسه بين الخالدين في قاعة العدل المقدسة.

ولم يكتف نجيب محفوظ بهذه المحاكمة لسعد زغلول أمام إيزيس وأوزوريس، أو “أمام العرش”، ولكنه أظهره أيضا أو جعله مشاركًا في محاكمة الرئيس جمال عبدالناصر في العمل نفسه.

قال سعد زغلول لجمال عبدالناصر: لقد حاولت أن تمحو اسمي من الوجود، كما محوت اسم مصر، وقلت عني إنني اعتليت الموجة الثورية عام 1919 فدعني أحدثك عن معنى الزعامة. الزعامة هبة ربانية وغريزة شعبية، لا تلحق بإنسان مصادفة، ولا كضربة حظ أعمى، والزعيم المصري هو الذي يبايعه المصريون على اختلاف أديانهم، وإلا لم يكن زعيمًا أبدًا، وإن جاز أن يكون زعيمًا عربيًّا أو إسلاميًّا، بيد أنني رغم ذلك لم أضمر لك الرفض، واعتبرت تجنِّيك عليَّ نزوة شباب يمكن التسامح معها نظير ما قدمت من خدمات جليلة، لقد قامت الثورة العرابية فناضلتْ نضالا كريما وأُحبطتْ إحباطًا أليما، وقامت ثورة 1919 فحقَّقت من المآثر ما شهد به التاريخ، ولكن تكاثر أعداؤها حتى اجتاحها حريق القاهرة، ثم جاءت ثورتك؛ فتخلَّصتْ من الأعداء، وأتمَّتْ رسالة الثورتين السابقتين، وبالرغم من أنها بدأت كانقلاب عسكري، إلا أن الشعب باركها ومنحها تأييده، وكان بوسعك أن تجعل من الشعب قاعدتها، وأن تقيم حكما ديمقراطيًّا رشيدًا، ولكن اندفاعك المضلّل في الطريق الاستبدادي هو المسؤول عن جميع ما حلَّ بحكمك من سلبيات ونكبات.

فقال جمال عبدالناصر: كان يلزمنا فترة انتقال لتحقيق الأسس الثورية.

صورة الزعيم

g

هكذا يخلق نجيب محفوظ احتكاكًا وجدلا وحوارًا سياسيًّا عميقًا بين الزعيمين سعد زغلول وجمال عبدالناصر في كتابه “أمام العرش”، والآراء الواردة على لسان الزعيمين تبلور الموقف الفكري لنجيب محفوظ نفسه، ونراها مبثوثة في أعماله الأخرى، سواء الإبداعية أو الحوارات الفكرية.

ويظهر سعد زغلول مرة أخرى أثناء محاكمة الرئيس السادات؛ فعندما ردَّ السادات على الزعيم مصطفى النحاس بقوله: أردتُ ديمقراطية ترعى للقرية آدابها وللأبوة حقوقها، قال سعد زغلول: هذا حق، ولكن الديمقراطية الحقيقية تُؤخذ ولا تُمنَح.

ثم يوجه كلامه للنحاس قائلا: لا تغالِ في لومه.

ثم يوجه سعد زغلول حديثه للسادات قائلا: عندما يغتصب الحاكم حقوق شعبه يخلق منه خصمًا، وعند ذاك تهدر قوة البلاد الأساسية في صراع داخلي بدلا من أن توجه للعمل الصالح.

وفي ختام “أمام العرش” يُدلي كل حاكم وزعيم برأيه النهائي لصلاح أحوال مصر، فيقول سعد زغلول: أن يكون الحكم فيها من الشعب بالشعب.

أما في “حكايات حارتنا” فنقرأ: “لا حديث هذه الأيام إلا عن الثورة، حتى حديثنا نحن الغلمان يرطن بلغة الثورة، ولعبنا في الحارة مظاهرات وهتافات.. اعتاد الصغار على دوريات الإنجليز، نمعن في الجنود النظر بذهول، ونقارن بين ما نسمع عن وحشيتهم، وما نرى من جمال وجوههم وأناقتهم ونتعجب. كانت المواصلات انقطعت تماما، والمذابح ارتكبت في الأزهر وأسيوط والعزيزية والحسينية، الأموات يفوقون الحصر، لا يهم، يكفي أن ينبري رجل ليقص سيرة الزعيم ومواقفه مع الإنجليز والخديوي، لألمح أبي تغرورق عيناه بالدموع.

كان عيدًا في الحارة، يوم أطلق الاحتلال سراح سعد. أسأل أمي: سيرحل الإنجليز؟ فتجيبني بيقين: إلى غير رجعة. في الليل، قامت الاحتفالات، تضاء الكلوبات في هامات الدكاكين، ترفع الأعلام، تدوي الزغاريد، تكتظ البوظة بالسكارى، تشتعل الغرز بنيران المجامر، وتتطوع العالمة ألماظية بإحياء الليلة. يرقص الرجال وتغني ألماظية: ليالي الأنس عادت بالليالي.. يا بلح (زغلول) يا حليوه يا بلح. وتختم بأغنية ضاحكة مطلعها “ياواد يا أللنبي كان جرى لك إه.. جه الاستقلال غصبا عنك وعن انجلتره”. من النافذة أسهر أنا.. وقوى مجهولة تشحن قلبي الصغير بحيوية سحرية.

وهكذا تبدو شخصية سعد زغلول في أعمال نجيب محفوظ الإبداعية، ومنها أيضا قصة “نور القمر” ورواية “حديث الصباح والمساء” و”الباقي من الزمن ساعة” و”قشتمر” وغيرها.

وفي الإسكندرية، عندما قضى محفوظ ليلة في فندق سيسل المطل على ميدان سعد زغلول، قال: دخلت حجرتي المحجوزة لي، سارعتُ إلى شرفتها لأشاهد تمثال زعيم الأمة، سعد زغلول باشا، الذي أبدعه المثّال الفنان محمود مختار. قمتُ بتحية الزعيم الذي لم أره في حياتي رأي العين، رغم حبي الجارف له، فاكتفيت برؤية وتحية تمثاليه في الإسكندرية والقاهرة. كان يوجه أنظاره إلى شاطئ البحر في وقفة شامخة تضارب الكثيرون حولها، ما بين تفسير فلسفي وتفسير شعبي، وتفسير أسطوري، وأنه ولّى ظهره للمدينة معتقدا أنه “مفيش فايدة” في أي شيء يقال، وتفسير آخر أنه ينظر إلى الشمال وإلى أوروبا متطلعًا لأن تصبح مصر مثلها، تقتدي بها في الكثير من الأمور، رغم أن “مصر للمصريين”.

ويتذكر محفوظ قول أحد الأصدقاء إنه لما سعد توفي دهنوا قلوع المراكب في الصعيد باللون الأسود. كما يتذكر أن صديقه عادل كامل أراه دعوة فرح أخته، وهي مجللة بالسواد، وقرأ فيها: “ندعوكم لفرح (فلان) على (فلانة) والبقية في حياتكم لموت زعيم الأمة”. ويقول: في الحقيقة تشاءمت لما أعطاني الدعوة. فقلت: فرح في مأتم؟

وعلى مائدة العشاء -في سيسل- اجتمعنا رمسيس نجيب وحسام الدين مصطفى وأنا، واخترتُ جلستي على المائدة بما يسمح لي أن أرى سعد زغلول والحديقة التي يتوسطها التمثال. وتذكرت التوكيل الذي منحه الشعب للقيادة الوطنية الجديدة التي تسعى لاستقلال مصر استقلالا تاما عن الإنجليز.

وعندما يتحدث نجيب محفوظ عن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، فإنه يشبهه بسعد زغلول، ويقول: إنه سعد زغلول الأدب.

10