سعاد عبدالرحيم امرأة تخضعها النهضة لاختبار تلميع صورتها الحداثية

شيخة مدينة تونس الجديدة نموذج للمرأة المتحررة المتمسكة برؤية قوامها الدفاع عن أفكار ليبرالية وإصلاحية تحرك سواكنها وتؤمن بها إلى حد لا يمكن تصوره.
الأحد 2018/07/22
"شيخة" مدينة تونس بين شخصيتين

لا حديث يمرّر هذه الأيام في الخزائن الضيقة والحوارات النقدية للقادمين إلى كواليس السياسة سوى ما أفرزته الانتخابات البلدية المحلية وصدعت به صناديق الاقتراع في الحاضرة الكبرى تونس. ليخرج إلى العلن اسم “الشيخة” هذه المرة على غير ما جرَت عليه العادات واتفقت عليه الأعراف.

يعرّفها البعض بسليلة حركة النهضة، فيما تواصل هي تمنّعها وتعرّف نفسها بالمستقلة سياسيا، رافضة نعتها بالإسلامية. خالفت السائد والعادي لدى كل المنتسبين للتنظيمات الإسلامية بخيارها عدم ارتداء الحجاب. توجهاتها، بحسب منطوقها الخارج للعلن، تكمن في مساندتها لكل مبادرة لها علاقة بمبدأ المواطنة وتوحيد صفوف الشعب التونسي.

إنها سعاد عبدالرحيم “شيخة” مدينة تونس. أصيلة قرية المطوية من ضواحي مدينة قابس. والمولودة بمدينة صفاقس عام 1964. درست بمعهد خزندار في مدينة باردو، وحصلت على شهادة الباكالوريا لتلتحق بعد ذلك بكلية الصيدلة بالمنستير في السنة الدراسية 1984-1983 وانتخبت نائبة للطلبة في المجلس العلمي.

بدأت عبدالرحيم نشاطها الطلابي في الكلية وأصبحت عضو المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للطلبة. تقر بعض المصادر بأنه بينما كانت تحاول تهدئة خلاف عنيف بين الطلبة، ألقي عليها القبض وسجنت في 1985 لمدة 15 يوما بسبب نشاطها الطلابي، أجبرت حينها على مغادرة دراستها قبل أن تعود إلى الكلية من جديد.

ورقة للاستقطاب السياسي

بعد قرار حل نقابة الاتحاد العام التونسي للطلبة، كثفت عبدالرحيم من نشاطها الحقوقي الذي أزعج السلطات مما أدى إلى اعتقالها ثانية وسجنها بتهمة معارضة النظام.

حصلت “بنت الجنوب” في البداية على شهادة في العلوم الغذائية في عام 1988، قبل أن تحصل على شهادتها في الصيدلة في 1992، وبدأت مسارها المهني كمديرة لمتجر بيع أدوات صيدلانية بالجملة في تونس العاصمة.

ولم تدخل الحياة السياسية أو الحزبية إلا بعد الثورة التونسية في عام 2011، حيث أصبحت في هذا العام عضوا في المكتب التنفيذي لحركة النهضة. وما لبثت أن ترشحت للانتخابات في عام 2011 كرئيسة قائمة النهضة في دائرة تونس الثانية الانتخابية، وفازت بمقعد في المجلس الوطني التأسيسي المكلف بصياغة دستور جديد للبلاد.

خلال الانتخابات التشريعية التي جرت في عام 2014 لم تترشح عبدالرحيم، وفضلت العودة إلى إدارة شركتها للأدوية في إحدى ضواحي العاصمة، بل وعملت محللة سياسية في برامج إخبارية على قناة “نسمة” المحلية (خاصة). وبعدها بعامين التحقت بالمكتب السياسي للنهضة مع عدد من الشخصيات الأخرى، في ما وصفته الحركة بانفتاحها على عدد من الكفاءات من خارجها.

الحياة السياسية والحزبية تعتبر عبدالرحيم حديثة العهد بها، فلم تدخلها إلا بعد الثورة التونسية في عام 2011، حيث أصبحت في هذا العام عضوا في المكتب التنفيذي لحركة النهضة. وما لبثت أن ترشحت للانتخابات في عام 2011 كرئيسة قائمة النهضة في دائرة تونس الثانية الانتخابية، وفازت بمقعد في المجلس الوطني التأسيسي المكلف بصياغة دستور جديد للبلاد

الحديث عن الرهانات السياسية للأحزاب وخصوصا منها أحزاب الحكم يضع الجميع أمام تساؤل غاية في الأهمية: أي الطرق السالكة للبروز وكسب معركة استقطاب الوجوه القيادية التي حرّكت العديد من الأحزاب خلال معركة الانتخابات البلدية سواء منها تلك التي في الحكم أو في المعارضة، لكن رهان حركة النهضة المعنية بهذا المسار قبل بداية معركة الانتخابات البلدية ظل معلقا على مجموعة من الوجوه لكسب هذا التحدي.

هناك من يبوّب هذا التمشي في خانة التكتيك الحزبي واللعبة السياسية وهناك من يرى أن حركة النهضة قد دخلت فعليا مرحلة التجريب في محاولة لإقناع الرأي العام التونسي والأجنبي بأنها قادرة على بلوغ أرقى المناهج الحداثية تطورا.

مثال الاستقطاب هذا يتجلى في أبهى صوره مع النائبة المستقلة عبدالرحيم التي راهنت عليها النهضة خلال المعركة الانتخابية وكسبت الرهان ولو جزئيا. أولا في الفوز ولأول مرة في تاريخ تونس بلقب “شيخ المدينة” الذي ذهب إلى امرأة محسوبة على النهضة ولو ظاهريا.

ثانيا معركة الترشيح الحزبي لوجوه نسوية على مختلف الدوائر سواء في العاصمة أو خارجها. وثالثا وهو أهم رهان، تكثيف النشاط الحزبي والتدليل لدوائر المراقبة على أحدث صورة لحزب بدأ في التغير ومدى أهلية هذا الحزب للفعل السياسي الذي قيّد نشاطه في السنوات الأخيرة وجعله يدخل مرحلة الشك من العديد من المراقبين سواء في الداخل أو الخارج.

ما الذي يحدث في قيادة النهضة؟

عبدالرحيم يعرّفها البعض بسليلة حركة النهضة وصنيعة الإسلاميين، فيما تواصل هي إنكارها وتعرّف نفسها بالمستقلة سياسيا، رافضة نعتها بالإسلامية
عبدالرحيم يعرّفها البعض بسليلة حركة النهضة وصنيعة الإسلاميين، فيما تواصل هي إنكارها وتعرّف نفسها بالمستقلة سياسيا، رافضة نعتها بالإسلامية

 قارئ ما وراء السطور لحقيقة المسار الانتخابي الذي جاء بعبدالرحيم شيخة لمدينة تونس يستكشف هذه الصورة الجديدة للفعل السياسي الذي يحرك القيادة في حركة النهضة، لكن ما يجود به حديث المراقبين يكشف عمق الأزمة التي تعاني منها الحركة في الدفع بهذه النائبة، التي عرفت باستقلالية نشاطها الحزبي ورفعها لجميع اللاءات كلما كثر النبش في مدى انتسابها للحركة خلال معركة نضالها السياسي، كورقة لتلميع صورتها.

عبدالرحيم واستنادا إلى تاريخها النضالي الذي يضعها في حل من كل ارتباطات حزبية خضعت رغما عنها لمرحلة التجريب مع النهضة واختارت التحدي في الدفاع عن هذا المنصب والأهم أنها اختارت خوض معركة مع ألدّ أعداء النهضة خصومة أي حزب نداء تونس.

تقول عن تجربتها تلك إن “الثقة الكبيرة التي منحني إياها الناخبون تجعلني أتمسك برئاسة بلدية تونس، وحقي في ذلك”. فيما جاء ردها على التساؤلات حول ترشيح حركة إسلامية لشخصية غير إسلامية، باعتبارها غير محجبة، أن “الانتخابات البلدية هي جهاز تنفيذي، أي مرتبط بقانون أساسي ينظم البلديات، ولا علاقة لها بالصراع الأيديولوجي أو الصراع حول الهوّية، لكي نفرّق على أساس الانتماءات والتفكير”.

يذهب مدافعون عن عبدالرحيم إلى أن انتخابها شكّل مفاجأة لمنافسي النهضة بسبب عدم ارتدائها الحجاب وكسرها للصورة النمطية التي يقدمها بعضهم عن الحركة، وانتصارها المتواصل لقضايا المرأة ودفاعها عن المكتسبات التي تحققت لها وتطويرها. فيما يرى خصومها أن رهان النهضة على وجوه خارجة عن دائرة التقيّة والتحرك الأيديولوجي الذي يطبع المنتسبين لها بات استراتيجية تحتكم الحركة لاستنساخها على أكثر من هاو وراغب في دخول أسوار مونبليزير (المقر الرئيسي لحركة النهضة)، وعبدالرحيم لم تحد عن هذا الإطار.

ما يسجله مراقبون لهذه المرأة هو تعرضها في العام 2011 إلى اعتداء بالأيدي من قبل محتجين أمام مقر مجلس النواب في باردو، بعدما استنكرت في تصريح إذاعي الدعوة إلى اعتماد تشريع يمنح المرأة حق الإنجاب خارج إطار الزواج ويوفر لها مساعدة اجتماعية أيضا، معتبرة ذلك أمرا يثير الاستغراب.

رفض عبدالرحيم يأتي من حركة نداء تونس العلمانية، التي قال أحد قادتها في برنامج تلفزيوني إن "التقاليد تمنع من أن تتولى امرأة منصب شيخ مدينة تونس"، معتبرا أن تونس "بلد مسلم ولديه تقاليد ولا يمكن أن تجلس المرأة في المسجد بجانب الرجال في المناسبات الدينية"

فوزها في الانتخابات البلدية التونسية على رأس قائمة النهضة في بلدية تونس العاصمة كان مدوّيا وصاعقا خصوصا لخصومها الندائيين الذين استشعروا القلق الذي باتت تمثله حركة النهضة على مسار الوجه العام للرؤية السياسية لواجهة تونس ممثلة بحاضرتها الكبرى ذات العمق التاريخي والموروث الحضاري الكبير، ليأتي تعليق “الشيخة” بعد نيلها شرف تمثيل هذه الواجهة في كلمة مقتضبة وصفت فيها فوزها بالمنصب بأنه “فخر للمرأة التونسية وفوز لنساء تونس”.

ويثني الكثيرون على ما نطقت به عبدالرحيم ويصنفونه في خانة التغيير الإيجابي البنّاء الطامح إلى القطع مع فلسفة ظلت متحكمة لعقود في مناصب يحتكرها الجنس الذكوري دون سواه.

لكنّ مراقبي المشهد السياسي التونسي يشدّدون على أن تتويج أول امرأة في تاريخ تونس بهذا المنصب منذ بداية تأسيس النظام البلدي عام 1858 لم يخل من مناكفة ذكورية صاخبة ناجمة عن عقليات مهترئة لدى بعض الفئات داخل الطبقة السياسية التونسية.

أول المنطوق جاء من حركة نداء تونس العلمانية، أين قال أحد قادة الحركة في برنامج تلفزيوني إن “التقاليد تمنع من أن تتولى امرأة منصب شيخ مدينة تونس”، معتبرا أن تونس “بلد مسلم ولديه تقاليد ولا يمكن أن تجلس المرأة في المسجد بجانب الرجال في المناسبات الدينية”.

أما المكلف بالاتصال في نداء تونس فؤاد بوسلامة، فقد سخر منها قائلاً “شيخة مدينة تونس امرأة، تصوروا امرأة ليلة 27 من رمضان في الجامع؟”. وقيّم فريق من التونسيين ترشحها للمنصب على أنه مناورة سياسية من النهضة لتلميع صورتها أمام منافسيها العلمانيين باستغلال امرأة غير محجبة لكسر الصورة النمطية التي يقدمها البعض عن الحركة. ووصف نشطاء ومغردون تونسيون باختلاف توجهاتهم الحزبية فوز سعاد بـ”التاريخي” واعتبروه انتصارا للمرأة التونسية وللثورة والديمقراطية.

في وجه العاصفة

أكبر تحد تخوضه عبدالرحيم بعد فوزها برئاسة بلدية تونس، وفق متابعين، يتمثل في كم الملفات التي تنتظرها بعد تراجع العمل البلدي في البلاد، وخصوصا في أحيائها الشعبية
أكبر تحد تخوضه عبدالرحيم بعد فوزها برئاسة بلدية تونس، وفق متابعين، يتمثل في كم الملفات التي تنتظرها بعد تراجع العمل البلدي في البلاد، وخصوصا في أحيائها الشعبية

رغم ارتدادات الفعل السياسي الذي يمثله حصول أول امرأة في تاريخ تونس على لقب شيخ المدينة، إلا أن مفعوله يمكن تنسيبه إذا ما اقترن باستطلاعات رأي يميل أغلبها إلى موقف واضح يريد القطع مع مسألة تولي امرأة أو رجل لهذا المنصب. ذلك أن المنصب أضحى صوريا أكثر منه عمليا، إضافة إلى أن التمثيل الخططي الذي تحظى به المرأة في تونس يضاعف تأهيلها للحصول على مناصب قيادية يمكن أن ترقى إلى أكثر من منصب رئيس بلدية تونس.

لكن خلافا لهذا التمشي، فإن ما يبدو منطقيا هو رؤية البعض لمدى قدرة عبدالرحيم على تخطي مجموعة من التحديات والانتظارات تقف حائلا أمام طموحها في النزول إلى الشارع وقدرتها على الإقناع خصوصا في ظل الانقسام السياسي الذي تعيشه تونس حاليا بين أكبر حزبين يتقاسمان سلطة القرار من ناحية وقرار الشارع في الحكم على الفعل السياسي من ناحية أخرى.

مهمة عبدالرحيم توصف بالمستحيلة، فيما يقلل آخرون من حجم التهويل الذي يحق لأي قارئ أن يستشفه من مسيرة التشكيك في امرأة ظلت ماسكة بانتظارات معلقة عليها واختارت هواية التحدي.

أكبر تحد تخوضه عبدالرحيم بعد فوزها برئاسة بلدية تونس، وفق متابعين، يتمثل في كم الملفات التي تنتظرها بعد تراجع العمل البلدي في البلاد، وخصوصا في أحيائها الشعبية ذات الكثافة السكانية العالية، بالإضافة إلى الانقسامات الكبيرة بين الفائزين بمقاعد بلدية تونس من بقية الأحزاب.

فشل النهضة ونداء تونس في التوصل إلى توافق بشأن بلدية تونس يظل أبرز مؤشر على حدة هذه الانقسامات، حيث دخل الحزبان في منافسة شرسة على رئاسة كل البلديات في كل الجهات. ووصلت المنافسة حد إعلان نداء تونس عزمه معاقبة منتمين له صوتوا للنهضة في بعض الجهات، كما حصل في بلدية باردو.

وسبق للنهضة أن فازت برئاسة عدد كبير من البلديات، أهمها بلدية صفاقس التي تعتبر ثاني أكبر المدن التونسية، وتحمل رمزية كبيرة مثل بلدية باردو، التي تضم مقر مجلس نواب الشعب، وكانت على امتداد عقود من الزمن مقر إقامة الحكام التونسيين قبل الاستقلال.

ميزة النتائج التي أظهرتها الانتخابات البلدية في تونس تتجسد في كونها حملت طابعا رمزيا مهمّا، وأعطت مؤشرا على نوعية التحالفات التي يمكن أن تتم في الاستحقاقات اللاحقة، وخصوصا الانتخابات الرئاسية، فيما الأهم من كل ذلك أنها قد تدفع بعض الأحزاب إلى القيام بمراجعات مهمّة بشأن تشكيل المشهد السياسي التونسي مستقبلا.

شيخة مدينة تونس الجديدة نموذج للمرأة المتحررة المتمسكة برؤية قوامها الدفاع عن أفكار ليبرالية وإصلاحية تحرك سواكنها وتؤمن بها إلى حد لا يمكن تصوره، وقد التقت في ذلك مع خيار تستشفه حركة النهضة وتسعى لتطبيقه عبر وجوه من خارج دائرتها الممكنة، شعارها في ذلك الظهور أمام الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي في صورة الحزب الإسلامي الديمقراطي.

الآن تكون مرحلة الانتخابات بمفاعليها الشعاراتية وأسلوبها المؤدي إلى المهاترات الأيديولوجية من قبيل الاصطفاف الحزبي والأدلجة والاستقطاب قد طويت، لتلد مرحلة جديدة عملية صرفة قوامها النظر في كمّ الملفات الموضوعة على طاولة عبدالرحيم.. هنا يتشكل معدن الشخصية العملية وتصقل مواهبها إثباتا للذات وتوقا للانتصار على المشككين.. فهل ستنجح شيخة مدينة تونس في هذا الاختبار؟

8