سطوة النموذج

السبت 2016/08/13

سطوة النموذج، هو المصطلح الذي أسفرت عنه مناقشة قصيرة، لكن مكثفة، جمعتني بنخبة من الأصدقاء المبدعين في أحد مقاهي الإسكندرية خلال إجازتي القصيرة أخيرًا في مصر؛ الباحث والشاعر الدكتور محمد سعد شحاتة، والباحث الدكتور أحمد عمر، والروائي والسينمائي مختار سعد شحاتة، والخبير الإعلامي أحمد عصمت.

كالعادة لا تعرف كيف بدأ الكلام وكيف ارتقت الأدمغة سلالم الأفكار، لكننا كنا نبث شكوانا تجاه إساءة التعامل العربي المزمن مع مفهوم الريادة وإغفال جانبها التاريخي، ما يتسبب في سطوة عابرة للتاريخ لأسماء بعينها في مجالات بعينها، وكأنّ أبواب الإبداع في هذه المجالات أُغلقت من بعدهم، الأمر الذي يحرم الحراكَ الإبداعي من الكثير من التجديدات والإضافات.

بدأت الأمثلة بالحديث عن تجربة الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر الذي صادف الاحتفاءُ بذكراه تلكَ الأيام، فاستمعنا إلى أبرز ملامح تجربته من الصديق محمد سعد شحاته -الذي يعد أهم من قرأ تجربة مطر من الباحثين العرب- ولأن الشيء بالشيء يُذكر حضر في المقابل نموذج الشاعر الكبير أمل دنقل الذي حظي بتسعين في المئة من الاهتمام الإعلامي والنقدي لشعراء جيله قاطبة، إلى أن اختزل -لدى الكثيرين- جيلًا بأكمله وألقى بظلاله على أجيال لحقته.

ليس في الأمر تقليل من أهمية تجربة دنقل، ولكن تأكيد على خطورة “سطوة النموذج” التي يُصنع الجزء الأكبر منها خارج النص وخارج الإبداع، بسبب خلط معروف في ثقافتنا بين الأشهر والأشعر والأهم والأسبق.

صنع الإعلام من شعر أمل دنقل نموذجًا ومنحه السطوة التي جعلته مقياسًا تقاس عليه الإبداعات اللاحقة، واحتفى به في ضجيج خفتت بسببه أصوات الاهتمام بتجربة مطر وغيره من شعراء، وإن كان ثمة من اهتم بها آنذاك.

الأصل في الإبداع أنه لا يعرف النماذج إلا لتجاوزها، وتبقى للنماذج الحقيقية ريادتها التاريخية، وما يتسرب منها إلى الوجدان الجمعي أو ما يُضيف إلى الجمال.

الإصرار على تحويل تجربة إبداعية إلى نموذج قياسي يتم عادة من خارج الإبداع، بسبب تفشي الجهل وعدم القراءة، أو الاكتفاء بالقراءة عن التجارب وليس قراءة التجارب، وبالتالي اجترار أفكار الآخرين وترديد المقولات الجاهزة، ومع جهل الحركة النقدية يكتفي النقاد بالقراءة الضريرة التي تبحث داخل النصوص فقط عمّا يدعم هذه المقولات الجاهزة ويُكرّس لها، وهو أمر يتفق تمامًا مع العقلية العربية التي تربّت على تقديس النصوص، لأن ذلك بالتحديد هو ما يحدث مع النصوص المقدسة منذ مئات السنين، لا مراجعة نقدية بل تأويل لتعزيز الصورة مسبقة الصنع، والويل لمن يجتهد في تقديم رؤية مغايرة.

قس على نموذج “مطر/دنقل” الكثير، سوف تكتشف أن كل نموذج تم التكريس له سطا على حق نماذج أخرى في القراءة، وعلى حقنا في معرفة نماذج أخرى، في الشعر وفي الرواية وفي التشكيل وفي الغناء وفي الرقص وفي الموسيقى، وبمجرد أن تتم للنموذج سطوته يحوّله النقاد والإعلاميون إلى مسطرة قياس حادة الحواف تقطع كل إضافة من دون اعتبار لجودتها وترى في كل اختلاف فشلًا في الوصول إلى النموذج، إذا كتبتَ رواية فأين أنت من نجيب محفوظ، وإذا كتبت شعرًا فلن ترقى إلى سماء دنقل، وإذا صدح صوت جميل بالغناء فكوكب الشرق هي أم كلثوم…، وهكذا.

إذا كان الهدف من الإبداع أن نحصل على محفوظ أو دنقل أو أم كلثوم آخرين فما الداعي له إذن؟ هؤلاء أصحاب تجارب إبداعية مذهلة ولكنها ليست كل الإبداع، وأفضل ما في وجودهم أنهم رفعوا سقف الطموح الجمالي، وعلى المبدع الآن لكي يحظى بما حظيت به تجاربهم من بقاء في الوجدان أن يضيف إلى هذا السقف، ولا يحدث ذلك إلا بتجاوزهم فنيًا، فقط ينبغي على كهنة النماذج معرفة أن التجاوز لا يقلل من قيمة المبدعين الريادية والتاريخية بل -على العكس- يزيدها ألقًا لأنهم سبب رئيس من أسباب كل جمال جديد.

كاتب من مصر مقيم في الإمارات

16