سطوة الدراما الاجتماعية تعمّق أزمة الكوميديا في مصر

وسائل التواصل تُغني المُشاهد عن الكوميديا التقليدية في غياب التجديد.
الأربعاء 2021/12/01
"فارس بلا جواز" كوميديا مستهلكة دون إضافات

عندما ينجح مشروع تجاري في مصر تنشأ العشرات من المشروعات المشابهة التي تقدّم المنتج ذاته وقد لا يفصل بينها إلاّ الجدران فقط. ويمكن تطبيق هذه القاعدة على سيادة المسلسلات الاجتماعية المتربعة حاليا على عرش الأعمال المعروضة تلفزيونيا التي انزوت بجانبها بقية القصص الدرامية، وخاصة الكوميديا.

القاهرة – عمّقت السطوة المستجدّة للأعمال التلفزيونية الاجتماعية في مصر أزمة الكتابة الكوميدية المعقّدة التي تجمع بين ضعف النصوص وسيادة نمط الاسكتشات القصيرة المصنوعة خصيصا لموقع يوتيوب، وتفضيل البعض من الفنانين خفيفي الظل الارتجال على الالتزام بالنص المحبك.

وتفاقمت المشكلة إثر هجرة الكثير من ممثلي الكوميديا مجالهم والدخول في عوالم جديدة بعدما تعرّضت أعمالهم الأخيرة لانتقادات حادة من قبل الجماهير، وآخرهم أحمد فهمي الذي خاض تجربة الشرير في فيلم “العارف” بعد الفشل الذريع الذي مني به مسلسله الكوميدي الأخير “رجالة البيت”.

وتستهوي الأعمال الجادة كتاب الكوميديا أيضا مثل هشام إسماعيل الذي كتب “القبطان عزوز” و”فزاع”، وانضم أخيرا إلى حلبة المسلسلات الاجتماعية بحكاية “قلب مفتوح” من سلسلة “ورا كل باب” التي تتمحور حول التوظيف الخاطئ لمواقع التواصل الاجتماعي.

تعاني النصوص الكوميدية الدرامية منذ سنوات، لكن ظهور بعض الأعمال الجيدة من حين إلى آخر منحها “إكسير” الحياة، وعاد الأمل في إمكانية العودة بمضمون خال من الابتذال والإسفاف.

ومثّل أحمد مكي إحدى المحاولات الجادة لابتكار مضمون كوميدي يعتمد على النوستالجيا قبل أن يفقد مزاياه بالمطّ والتطويل والإقحام المفتعل لشخصيات تحاول انتزاع الضحك وتعوّض العجز عن توليد مفارقات بالشخصيات القائمة.

إكسير الحياة

☚ سرّ بقاء مسلسل "يوميات ونيس" محفورا في الذاكرة يعود إلى جمعه بين الضحك والقضايا اليومية والحياتية
سرّ بقاء مسلسل "يوميات ونيس" محفورا في الذاكرة يعود إلى جمعه بين الضحك والقضايا اليومية والحياتية

اختفى كتّاب الكوميديا الكبار لصالح جيل جديد في مصر لا يعرف قيمة الكوميديا وتجاهل القاعدة الراسخة التي تؤكّد صعوبة إضحاك البشر وسهولة إبكائهم، ليحوّلوها إلى مضمون تافه ساذج لا يتضمن قصة ولا حبكة ولا حتى رسما للشخصيات.

ويستسهل بعض العاملين في القطاع الكوميديا وينصّبون أنفسهم كتّابا مثل أيمن وتار الذي ظهر للمرة الأولى مع الإعلامي الساخر باسم يوسف في برنامجه “البرنامج”، وكان صاحب سيناريو مسلسل “رجالة البيت” الكارثة الفنية التي اعتذر ممثلوها عنها قبل عام.

ويدخل عمرو وهبة، صاحب التجارب المحدودة في التمثيل الكوميدي، إلى عالم الكتابة أيضا بسيناريو مسلسل “عالم موازي” للفنانة دنيا سمير غانم الذي تمّ تأجيله من الموسم الرمضاني الماضي، ولم يقع استكمال تصويره حتى الآن بسبب وفاة والديْ بطلته، الفنانين سمير غانم ودلال عبدالعزيز.

والمشكلة أن جيل الشباب لديه نوع من القصور في فهم الكوميديا الدرامية وجيل الرواد لم يعد مواكبا للعصر وتغيراته، وكلاهما يعمل في عالمه الخاص دون تواصل بينهما، ليصبح أمام الجمهور الاختيار بين السخافة والنكتة المبتذلة.

وظهرت تلك الأزمة في مسلسل “فارس بلا جواز” للمطرب مصطفى قمر الذي يقف خلفه كاتب مخضرم مثل فداء الشندويلي، أحد الذين لحقوا بجيل كبار المضحكين وعلى رأسهم فؤاد المهندس الذي كتب الشندويلي سيناريو تحفته “عمو فؤاد”.

جاءت كوميديا “فارس بلا جواز” مستهلكة لا تتعدّى تخفّي موظف ضرائب في صورة مستثمر صيني لكشف تهرّب صاحب فندق من الضرائب، وتحدّثه باللغة العربية الفصحى وسخريته من الآسيويين بالبحث عن خفاش لأكله أو مزاولته صيد السمك في حوض السباحة أو الخطأ المتعمّد في نطق العملة الصينية بتسميتها “علوان” بدلا من اليوان.

تراجع الكوميديا في مصر يرتبط بالمجتمع ذاته الذي تراجعت فيه روح النكتة كأحد الفنون الشعبية المتوارثة

وتتمثل إحدى المشكلات التي تواجه الكوميديا في تدخلات كبار النجوم الذين يقومون بتعديل مسارها وفقا لأهوائهم، بإضافة بعض التعليقات الساخرة الواردة على مواقع التواصل، فينعكس الأمر على الحبكة النهائية التي تأتي مستهلكة.

وأصبح لكل بطل من المشاهير المؤلف المفضل الذي يكتب له العمل حسب مقاسه ويهمّش باقي الفريق، فيصبح المسلسل خاويا من اللطافة إلاّ من المَشاهد التي يظهر فيها البطل ويحس الجمهور برتابة بقية المشاهد التي يظهر فيها باقي الممثلين.

وتعاني الكوميديا من انعزال الكتاب والممثلين في المجتمعات المغلقة، واعتمادهم في التقاط الأفكار على مواقع التواصل الاجتماعي رغم ارتباط توليد الضحك بالاختلاط بالبشر والاحتكاك بهم ومناقشة قضاياهم ووضعها في إطار كوميدي، فالضحك لا يعني خلو العمل من فكرة أو مشكلة تتمّ مناقشتها.

ويؤكّد سجل الأعمال الكوميدية في مصر أن سرّ بقائها يكمن في جمعها بين الضحك والقضايا اليومية والحياتية مثل “يوميات ونيس” و”ساكن قصادي” و”عائلة الأستاذ شلش” و”رحلة المليون” و”البشاير”، ومارست النقد والتوجيه في قصص لا تخلو من المفارقات الكوميدية دون اعتماد على نكات أو افتعال في التمثيل.

ومعروف أن للكوميديا أنواعا متعدّدة، أهمها المواقف وأسوأها المرتكزة على العيوب الجسدية، والأخيرة مفضلة لغالبية كتاب السيناريو المصريين، فتوظيف بعض الفنانين مرتبط بمشكلات جسدية في المقام الأول، مثل طاهر أبوليلة الذي يتمّ اختياره بسبب تلعثمه في النطق، أو نورا السباعي وعائشة الكيلاني، فالأولى كانت سمنتها المفرطة دافعا وراء توظيفها واختفت حينما فقدت الوزن، والثانية لم تظهر منذ إجرائها عملية تجميل عالجت بها فكّها البارز.

تطلعات متزايدة

إفيهات قديمة تجاوزها الزمن
إفيهات قديمة تجاوزها الزمن

رفعت وسائل التواصل الاجتماعي سقف تطلّع الجمهور إلى الكوميديا في ظل امتلائها بمواقف حياتية مضحكة طازجة غير مفتعلة ومتنوّعة المحتوى، وتتماشى مع جميع البيئات والثقافات.

ويفرض تنامي استخدام التكنولوجيا على كتاب السيناريو التجديد المستمر، فالنكت التي يستخدمونها في مسلسلاتهم تفقد قيمتها حال اقتباسها من الجمهور ذاته الذي لا يرحم حين يمارس النقد ويتفنّن في استخراج الأخطاء والعيوب.

ولا تستطيع المسلسلات مجاراة الكوميديا على مواقع المقاطع المصوّرة كيوتيوب، فكوميديا المنصات الرقمية أكثر جرأة من الدراما التلفزيونية التي يجب أن تراعي اشتراطات الجهة الرقابية والأعراف المجتمعية والذوق العام.

ويرتبط تراجع الكوميديا في مصر بالمجتمع ذاته الذي تراجعت فيه روح النكتة كأحد الفنون الشعبية المتوارثة، فاختفت من المقاهي عبارة “آخر نكتة”، وأصبح الجالسون مشغولين بالألعاب الإلكترونية أو المباريات الكروية المشفرة التي تتطلب اشتراكا ولا يمكنهم مشاهدتها في منازلهم.

واختفى فن الكاريكاتير الساخر أيضا من الصحف المصرية وبات المعروض منه شحيحا لا يتعدّى الخطوط السمجة التي لا تُضحك ولا تَنتقد، ولا  تراعي قواعد الفن الصحافي الذي يجمع بين الرسم والرأي، ويستمدّ قيمته من إبراز التناقض والمفارقات والمبالغات واللامنطق.

وتقول الناقدة ماجدة خيرالله إن مصر تعاني أزمة في الكوميديا منذ تمّ ترك هذه الكوميديا لمجموعة من المُهرجين، فكانت النتيجة غاية في السوء ولا تتعدّى الإفيهات القديمة.

ماجدة خيرالله: الكوميديا الحقيقية تعتمد على الموقف، لا كثرة الكلام
ماجدة خيرالله: الكوميديا الحقيقية تعتمد على الموقف، لا كثرة الكلام

وتعود آخر فترات انتعاش الدراما الكوميدية إلى العام 2010 حينما تم عرض ثمانية عشر مسلسلا كوميديا دفعة واحدة، موزعة بين “سيت كوم” وأعمال طويلة بمشاركة نجوم مخضرمين مثل محمد صبحي وماجدة زكي وهاني رمزي وأشرف عبدالباقي.

ولم تحقّق تلك الأعمال الحصيلة الإعلانية التي انتظرها المنتجون ولم تتم إعادة عرضها بعد الأحداث التي أعقبت ثورة يناير 2011، فانصرفوا عن الكوميديا ووجدوا ضالتهم في الأعمال ذات الصبغة السياسية والأمنية التي تماشت مع تلك الفترة من الانتقال السياسي.

وبعد انتهاء الفترة الانتقالية السياسية نجحت أعمال اجتماعية تركّز على الحياة المعتادة للأسر وتشبه مقاطع الروتين اليومي على موقع يوتيوب، فشمّر كتاب السيناريو أياديهم ودخلوا جميعا حلبة هذه الأعمال.

وعندما زاد التركيز الحكومي على المرأة ونجحت السلاسل القصيرة المعبرة عن قضاياها أصبح أرباب مهنة السيناريست ناشطين في حركات “الفيمينيست”، وأمطروا الشاشة بقصص عن المعيلات والخرس الزوجي وحضانة الأطفال والولاية التعليمية والتشوّهات الخلقية.

وأوضحت خيرالله لـ”العرب” أن الكوميديا الحقيقية تعتمد على الموقف وليس الكلام، وما يقدّم حاليا تكرار لما يقدّمه أعضاء مجموعة “مسرح مصر” الذين دفع بهم الفنان أشرف عبدالباقي، ولم يغيّروا شخصياتهم ووقعوا في فخّ التكرار؛ فالتنوّع في الشخصيات شرط أساسي لنجاح الكوميديا.

ولكي تعود الكوميديا إلى سالف عهدها عليها أن تعتمد على جيل من الكتاب يفهم تركيباتها الكيميائية من قصة ومواقف مضحكة ورسالة واضحة وممثلين يعرفون أن الموهبة أمر فطري وأن “صاحب السبع صنائع.. لا يتقن أي صنعة”.

14