سريالية عربية.. عسكر وسياسة

هل لدى أيّ أحد ذرّة من الشك في أن الجيش هو أصل المشكلة في السودان؟ أنظر إلى سلسلة الانقلابات التي نفذها ضد حكومات مدنية وعسكرية على حد سواء، وستكف عن الاعتقاد أنه “جزء من المشكلة” لأنه بالأحرى كل المشكلة.
سوف يبدو هذا الحكم مبالغا فيه حيال التعقيدات السكانية (العرقية والدينية) وحيال مساحة البلاد (مليون ميل مربع) وكذلك حيال قضايا التخلف الاقتصادي والفساد وكل ما يأتي منهما من علل. ولكن الحقيقة هي أن البلاد كانت سوف تستطيع أن تتدبر كل هذه التعقيدات لو أن حكومتها المدنية الأولى التي أعقبت الاستقلال سلمت مقاليد الأمور إلى حكومة مدنية أخرى فأخرى.
لا أحد يستطيع الزعم أن الحكومات المدنية لا تفشل. نحن نعيش في منطقة كانت تغلي فيها الأيديولوجيات المتناحرة. وكل واحدة منها كانت تعتقد أنها هي التي تملك الحل السحري لجميع المشاكل. كما كانت المنطقة تغرق بحركات التحرر التي عرفت كيف تحارب الاستعمار ولم تعرف ماذا تفعل من بعد ذلك. ولم يكن هناك مفهوم واحد، من قبيل “الحرية” و”الاستقلال” و”الاشتراكية” و”النهضة”، إلا وكان ملتبسا، أو غامض المعاني، أو فارغا. وكان بوسع الصراعات السياسية أن تسفر عن أنظمة استبداد. إلا أن الجيش، برغم هذا كله، لم يكن هو الحل. ولا كان جديرا بأن يكون شريكا في أيّ حل. وما من ضابط من ضباطه كان يستحق أن يتولى أيّ مسؤوليات مدنية.
◙ ما ظل يحصل في السودان هو أن ضباط الجيش ظلوا يقفزون إلى مقعد القيادة، لا تعرف لماذا أو على أي أساس سوى أنهم يمتلكون السلاح ويسمحون لأنفسهم بإطلاق النار
لماذا؟ لأنه على غير اختصاص. والاعتماد على ضباط لمعالجة مشكلة مدنية، يشبه أن يصاب المرء بمغص كلوي، فيذهب إلى طبيب أسنان ليطلب منه العلاج. شيء سخيف قطعا. شيء فيه من الجهل والحماقة والاستخفاف بالعقول مما لا يمكن تصوره. ولكن هذا ما ظل يحدث، ليس في السودان وحده، ولكن في العراق وسوريا ومصر والجزائر وليبيا واليمن.
الآن تستطيع أن تعرف لماذا بقيت هذه البلدان مأزومة باستمرار. هناك خيط واحد يجمع بينها. هو أن “العسكرتاريا” كانت هي اللاعب الأكبر في إدارتها وتقرير مصائرها.
نعم، تستطيع أن تستثني بعض أعمال وطنية من قبيل تأميم النفط في العراق أو تأميم قناة السويس في مصر، وغير ذلك من قضايا المواجهة مع “بقايا” الاستعمار أو مخلفاته. ولكن هذا الاستثناء نفسه ظل يؤكد القاعدة. وهو أن “العسكرتاريا” التي اكتسبت “الشرعية” من تلك الأعمال وظفتها لتخريب التطور المدني، ودفعت المجتمع إلى أن يتحول إلى قوة هامشية. فصارت تلك الأنظمة هي الراعي، والمجتمع قطيع من الخرفان. حتى ليجوز التساؤل: من أين يمكن للتطور أن يأتي في بيئة كهذه؟ ما الذي يمكنه أن يجعل التنمية حراكا اقتصاديا – اجتماعيا متفاعلا، وليس قرارا يتخذه “القائد العام”؟ وما هي قيمة التعليم الإلزامي أو الجامعات إذا بقيت تُخرّج أميين، قبل أن تقذف بهم إلى “سوق البطالة”؟
وما من بلد من البلدان آنفة الذكر، إلا وكانت فيه العشرات من الجامعات. ولكن “القائد العام” ظل هو أبوالعلوم والمعرفة في “جميع المجالات”.
ترسيخ قيمة واحدة من قبيل “التداول السلمي للسلطة”، أو “دولة القانون”، كان يكفي ليجعل من الفشل في المرة الأولى، محاولة للنجاح في المرة الثانية. الشعوب تتعلم من تجاربها في النهاية، بشرط أن يُترك لها الحق في أن تتعلم، لتستفيد مما تعلمته.
خذ أيّ موضوع يمكن لأيّ حكومة مدنية أن تفشل فيه. أيا كان. وسترى أنه عندما يتحول إلى نقاش مفتوح، ويستدعي سياسات جديدة تنفذها حكومة تالية تعلمت الدرس، فإن العلاج سوف يظهر، كما تظهر التفاصيل التي كان يتعين أخذها بالاعتبار. وشيئا فشيئا، يترسخ النجاح. ثم يأتي غيره. أو تظهر معضلات أخرى، فتعالج.
ارتكاب كل الأخطاء ليس أمرا سيئا، من وجهة نظر المنهج التجريبي، طالما أن تراكم المعرفة يقود في النهاية إلى الصواب. ولكن “العسكرتاريا”، عدا عن كونها تخطئ، فإن صوابها نفسه خطأ لأنه يحوّل “الصواب” من “آلية معرفية” إلى “قرار” يتخذه “القائد العام”. ومن ثم ليكسب منه “شرعية” تبرر له كل الأخطاء الأخرى.
◙ الانقلابات العسكرية هي محنة السودان الوحيدة التي جعلت هذا البلد الثري بالموارد والإمكانيات والخبرات يغرق في حفرة جحيم وكأن لا نهاية لها
خذ ظاهرة التسول أو تفشي المخدرات أو السرقة، على سبيل المثال. الإدارة المدنية للدولة ملزمة بأن تبحث في الأسباب والعوامل التي تصنع هذه الظاهرة، وتسعى إلى معالجتها، على قدر ما يتوفر لها من إمكانيات. “العسكرتاريا” تحل المشكلة بأن ترسل مفارز الشرطة لاعتقال المعنيين. لتكتشف أنهما طريقتان مختلفتان في التفكير. الأولى تحلل الظاهرة لتعالجها، والثانية تتخذ قرارا ضدها.
ما ظل يحصل في السودان هو أن ضباط الجيش ظلوا يقفزون إلى مقعد القيادة. لا تعرف لماذا، أو على أيّ أساس، سوى أنهم يمتلكون السلاح، ويسمحون لأنفسهم بإطلاق النار.
من هو عبدالفتاح البرهان؟ إنه “فريق أول ركن”. ولكن ليس في التنمية! ولا في الاقتصاد، ولا التخطيط والإحصاء، ولا الإدارة ولا القانون، ولا في أيّ وظيفة مدنية أخرى. وإذا شئت المزيد من الحماقة، فإنه ليس طبيب أسنان يمكن اللجوء إليه إذا التهبت البنكرياس. مجرد وجوده في مقعد مدني شيء سريالي. فنتازيا لا تدخل العقل.
لو كان الشعب السوداني ناضجا، ما كان ليسمح له، ولا لغيره، بمجرد المرور عبر بوابات الإدارات المدنية، فما بالك بأن يقودها ويسمح لنفسه بتنفيذ انقلاب بعد آخر للسيطرة عليها.
وكأيّ منافق آخر، فإنه يزعم بأنه يريد أن يسلّم السلطة إلى المدنيين. طيّب، سلّمها. ما الذي يؤخرك؟ لماذا تبقى تمسك بالكرسي وتضع شروطا بعد أخرى لكي “تعود إلى الثكنات”. عد، لينتهي الأمر. لماذا الكذب؟ لماذا الخداع؟
أنت “فريق أول ركن”. ممتاز. روح اشتغل فريق أول ركن في المكان الطبيعي لهذه الوظيفة. ما الذي يجعلك مؤهلا لتشتغل رئيسا أو رئيس وزراء، أو موظفا إداريا في أيّ مكتب حكومي؟
يوجد في السودان الآلاف من أمثال الخبير الاقتصادي عبدالله حمدوك. هذا الرجل، كانت لديه مشاكل تتعلق بتوافقات الأطراف السياسية المدنية واختلافاتها حول هذه القضية أو تلك. ولكن، كان من منتهى الإجحاف، واللامنطق، أن “ينط” عليه وعلى حكومته “فريق أول ركن”، ليعزله ويعتقل عددا من وزرائه.
◙ لا أحد يستطيع الزعم أن الحكومات المدنية لا تفشل. نحن نعيش في منطقة كانت تغلي فيها الأيديولوجيات المتناحرة. وكل واحدة منها كانت تعتقد أنها هي التي تملك الحل السحري لجميع المشاكل
هذا وضع يشبه عابر سبيل لديه مشاكل منزلية، فتأتي سيارة عسكرية لتصدمه وتقول له، بعد أن كسّرت عظامه، إنها سوف تحل له تلك المشاكل. شيء عجيب فعلا.
ما هو أعجب من ذلك، أن الحديث عن “مفاوضات” يجريها القادة العسكريون المتنازعون، لا تضم مدنيا واحدا. وكأن السودان دولة ضباط، لا شعب فيها.
لن يصعب على الأطراف المدنية المختلفة أن تتوافق على شخصية مدنية مستقلة، من أهل الخبرة، ليكون هو الطرف الثالث في تلك المفاوضات. وكيفما سار الجدل بين المتنازعين، فبوسع هذا الطرف المدني، أن يقول في النهاية: “شكرا لكم. عودوا إلى ثكناتكم. الحكومة ليست من اختصاصكم. وعندما تكونون هناك في الثكنات، فلتقصفوا بعضكم بعضا إلى يوم يبعثون”.
الانقلابات العسكرية هي محنة السودان الوحيدة التي جعلت هذا البلد الثري بالموارد والإمكانيات والخبرات يغرق في حفرة جحيم وكأن لا نهاية لها.
بطريقة أو أخرى، فإن حل الجيش، وإعادة بناء قوات مسلحة تقتلع من دماغها فكرة أنها قادرة على تنفيذ انقلابات، هو الشيء الوحيد الصحيح إذا شاء السودان أن يعثر على طريق خارج هذه الحفرة.
في كل مكان يوجد فيه فشل متوارث، وتخلّف متأصّل، هناك بصمة استبداد و”عسكرتاريا”. لماذا؟ لأن هناك فيه أهل اختصاص ينطنطون على أهل اختصاص آخر. يتحول الأمر إلى فيلم رعب في بعض الأحيان. ولكنه سريالي دائما.