"سرقة القطار الكبرى".. أسطورة ما تزال تلهم كتاب العالم وفنانيه

كريستوف ماير
لندن - ما زالت قصة “سرقة القطار الكبرى” تسيطر على خيال البريطانيين بل والعالم، رغم مرور ستين عاما على حدوثها، فهذه الواقعة التي سرق فيها اللصوص بحبكة أسطورية مذهلة، ما يصل إلى 47 مليون جنيه استرليني بالقيمة الحالية، (ما يوازي 60 مليون دولار)، كانت معبأة داخل أكياس، في قطار تابع لهيئة البريد البريطانية، وما أعقب ذلك من رفع بصمات اللصوص التي تركوها على لعبة مونوبولي، ثم هروب أحدهم إلى ضاحية كوباكابانا بمدينة ريودي جانيرو البرازيلية.
وأثارت قصة السرقة الذهول وقتذاك، وهي تصور أيضا الخيانة والعلاقة المبهمة بين الشرطة والعالم السفلي للجريمة، وأصبحت مادة للأفلام والأغاني والمسلسلات التي تذيعها الإذاعة، وهي مادة مستمرة تلهم كتاب الدراما رغم مرور هذه السنوات الطويلة.
وترقبت عصابة من 15 رجلا القطار، عند جسر للسكك الحديد في مقاطعة باكينجهامشاير، ليلة الثامن من أغسطس 1963، وخططوا للعملية بدقة بالغة، بعد أن علموا أن قطار البريد القادم من مدينة جلاسجو إلى لندن، يحمل زكائب مكدسة بالأوراق المالية.
وأدخلت العصابة تعديلا بسيطا على إشارات السكك الحديد، بحيث غطوا إشارة الضوء الأخضر الذي يسمح بالمرور، وأضاءوا الإشارة الحمراء باستخدام بطارية بسيطة، مما دفع سائق القطار إلى إيقافه فجأة.
ودخل أفراد العصابة القطار، وتغلبوا على السائق بضربه على رأسه. ثم قاموا بتحميل زكائب أوراق النقد، في مركبات كانت في الانتظار، وهربوا بالمال.
عملية السرقة السريعة والناجحة، أصبحت ما بين عشية وضحاها أسطورة تتناقلها الألسنة
واختار أفراد العصابة مزرعة قديمة ليست بعيدة عن مسرح الجريمة، كمكان يختبئون فيه ويقسمون فيه الغنيمة.
وقال المحقق السابق ستيف جاسكين إن عملية السرقة السريعة والناجحة، أصبحت ما بين عشية وضحاها أسطورة تتناقلها الألسنة، وعلى الرغم من أن سائق القطار لم يتعاف أبدا من صدمة تلك الليلة، فإن اللصوص اكتسبوا سريعا شهرة روبن هود.
ويقص جاسكين وهو محقق سابق في الشرطة البريطانية سكوتلانديارد، الأحداث التي أحاطت “بسرقة القطار الكبرى”، في أمسيات بحانة ستار بضاحية بلجرافيا بلندن. واختار جاسكين هذه الحانة، حيث أنه يعتقد بشدة أن لصوص القطار اعتادوا أن يلتقوا فيها.
وقصة أولئك اللصوص الذين اتسموا بالجرأة البالغة، وتمتع بعضهم بالجاذبية المفرطة، أثارت اهتمام الناس في مختلف أنحاء العالم.
وبعد ثلاثة أعوام من وقوع الحادث الغريب، صار محورا لمسلسل تلفزيوني ألماني، بل إنه ألهم الكتاب لتأليف حكايات عنه في كتب مسموعة، كما أنتجت هيئة الإذاعة البريطانية نسخة جديدة من قصة الحادث، بمناسبة مرور نصف قرن على وقوعه.
غير أن القصة لم تستمر أحداثها لنفس هذه الفترة الطويلة، بالنسبة إلى بعض الرجال الذين تورطوا في الحادث.
فسرعان ما ألقت الشرطة القبض على 12 منهم، وتم الحكم على بعضهم بالسجن لمدد تصل إلى 30 عاما، وكانت لوحة لعبة مونوبولي التي تحمل بصمات أصابع بعضهم وتركوها خلفهم في مخبئهم، مفتاحا حاسما لحل لغز السرقة استخدمته الشرطة للتوصل إليهم، غير أنه لم تتم استعادة غالبية الأموال التي سرقت.
وتمكن بعض أفراد العصابة في وقت لاحق، من الهروب من السجن، وأشهرهم روني بيجز، الذي كان يقضي فترة عقوبة في السجن لمدة 30 عاما، برغم أنه قام بدور محدود فقط في عملية السرقة.
القصة تعتبر مادة مستمرة تلهم كتاب الدراما رغم مرور هذه السنوات الطويلة
وهرب بيجز عام 1965 من سجن واندسورث، بالقفز من فوق سور باستخدام سلم من الحبال، ليسقط فوق شاحنة لنقل الأثاث بها فتحة في السقف كانت في انتظاره.
وأجرى بيجز عملية تجميل في باريس، ثم هرب إلى أستراليا مع أسرته، ومع تعقب السلطات له، هرب مرة أخرى بمفرده إلى البرازيل.
وفي مدينة ريودي جانيرو، رسم بيجز لنفسه صورة الشخص المفعم بالمرح وحب الحياة، والذي يحكي متباهيا قصة هروبه، وهو يحتسي المشروبات الكحولية، وهذا الوضع لقي الإعجاب في عالم البانك، وهو تيار يعارض الاتجاهات السائدة في المجتمع. وسجل فريق “ذي سكس بيستولز” الغنائي الإنجليزي، معه عام 1978 أغنية “ليس هناك شخص بريء”.
بل إن صورته المتمردة ألهمت فريق توتن هوسن الغنائي الألماني، فسجل أغنية “كرنفال في ريو”، مع بيجز عام 1991، وفي مقطع الفيديو المصاحب للأغنية، يمكن مشاهدة المغني كامبينو وأعضاء الفريق الآخرين، وهم يلعبون كرة القدم مع بيجز، ويحتفلون معه في مرح بتناول الكحوليات بضاحية كوباكابانا.
واحتفظ عازف الإيقاع الألماني ميخائيل بريتكوف، المعروف باسم “بريتي”، بصداقته لبيجز حتى وفاته. وقال بريتي في مقابلة معه إن بيجز عمل على أن يحظى بالشهرة، ويرجع ذلك أساسا لأنه لم يُسمح له بالعمل في البرازيل، وأضاف “هذا التطور جعله ينظر دائما إلى العالم الخارجي، كما لو كان يصفع السلطات البريطانية، لعدم قدرتها على القبض عليه”.
ومع ذلك فبعد وفاة بيجز بوقت قصير، قال بريتي لمجلة دير شبيجل الإخبارية الألمانية، إن بيجز لم يكن يستطيع أن يتحمل ملاحظة مستفزة.