سامر أبوهواش يترجم خطواته في المدن الكبرى ويروي حكاياته في القصائد

“ليس هكذا تصنع البيتزا”، “السعادة أو سلسلة انفجارات هزت العاصمة”، “تحية الرجل المحترم”، “سيلفي أخيرة مع عالم يحتضر”، “نزل مضاء بيافطات بيض”، “عيد العشاق”، هل هي عناوين لأعمال أدبية يشكل الشعر مصدرها فهو المنجم الذي تستخرج منه مفرداتها التي تجمع بين الألم والسخرية؟
لدى سامر أبوهواش ما يفكر فيه وهو يقول “كيف أفهمهم هذه المعادلة البسيطة: أنا شخص غير مولع بالسياحة. هناك البشر الذين يحبون الجبال والوديان والحارات والأبنية التاريخية، وهناك من لا تثير فيهم هذه الأشياء أي شعور. ربما كان موقفا ‘أيديولوجيا’ من قبلي، أنا الذي أتشبث بحبي للمدينة الحديثة، بتشابكاتها وعلاقاتها وإيحاءاتها وجمالياتها، ولا يعنيني كثيرا مشهد بيت أو أثر عمره آلاف السنين”.
سامر أبوهواش هو شاعر قبل أن يكون مترجما وروائيا. ولكنه في شعره لا يخفي المترجم والروائي. تلك هي فكرة حياته. فهو يترجم ما فاته من مفردات العيش التي التقطها من حياة ارتجلها لتكون بمثابة نزهة بين المدن. فهو شاعر بصري. يمد أصابعه إلى الصور التي شكلت سيرته المرتبكة ليلتقط خيوط سعادته أو وهم تلك السعادة.
يترجم خطواته في المدن الكبرى ويروي حكاياته ولكن على طريقة الشعراء الرحالة. يقول لك “لقد عشت” كما لو أنه في نهاية عمره. يكتب سيرته وهو يضحك. تشغله الفكاهة السوداء من غير أن يلتفت إلى مرح ماضيه.
أبوهواش شاعر مديني معاصر، بكل ما تعنيه الصفتان من دلالات. فهو يركب جمله مثل مهندس يخطط لبناء عمارة معاصرة. صوره مستلهمة من موقف مضاد للعاطفة المسترخية على تراث من الصور الجاهزة. لذلك تخترع جمله إيقاعا سريعا يقبل عليه القارئ كما لو أنه يركض.
كل قصيدة منه هي “مارثون شعري”. جمهرة من اللقطات التي تكفي الواحدة منها لتأمل ساعات. غير أن الشاعر وهو غزير الإنتاج لا يلتفت إلى ما تأخر منها. سباق مع الزمن الذي يتخذ مع أبوهواش طابعا مرتجلا تولد من خلاله قيم جمالية جديدة.
المترجم يبحث عن خطئه
ولد سامر أبوهواش في صيدا جنوب لبنان عام 1972. درس الصحافة في الجامعة اللبنانية وتخرج عام 1996. أصدر كتابه الشعري الأول “الحياة تطبع في نيويورك” عام 1997. وكان منذ عام 1991 قد بدأ بنشر أشعاره في الصحف والمجلات اللبنانية. عام 2005 أصدر روايته الأولى “عيد العشاق”.
أصدر أبوهواش أكثر من عشرة كتب شعرية، من بينها “تذكر فالنتينا” و”داريو جاز برلين” و”سوف أقتلك أيها الموت”. عام 2020 صدر كتابه “الأطلال” وهو آخر كتبه الشعرية.
وفي مجال الرواية أصدر أبوهواش روايتين هما “عيد العشاق” و”السعادة أو سلسلة انفجارات هزت العاصمة”.
أما في مجال الترجمة فقد قضى تسع سنوات في ترجمة الشعر الأميركي وكانت الحصيلة 15 كتابا لأبرز شعراء أميركا المعاصرين.
إضافة إلى ذلك فقد قام بترجمة العديد من الروايات من بينها “على الطريق” لجاك كيرواك. غير أن مأثرته في الترجمة تكمن في ترجمته لقصص الأميركي وليم فوكنر.
يقول عن تلك التجربة ــ المغامرة “عندما ترجمت فوكنر اعتقدت أنه لا يوجد من بعده أي عمل صعب، لكني عندما اكتشفت كارلين روبنسون وجدتها صعبة جدا. أهم شيء أني دائما أضع الخطأ أمام عيني واحتمالات الخطأ كثيرة. فهناك أخطاء مرئية وأخرى غير مرئية وهي التي تحتاج مني أن أقرأ مرة واثنتين من أجل التأكد من معرفتي بالخطأ وكيف لي أن أمسكه أضع له حلا”.
في ظل ما يقوله أبوهواش هل نتحدث عن النوع أو الكم؟ ترجم أبوهواش كثيرا غير أن كل من قرأ ترجماته يعتبرها من طراز راق. وكما أعتقد فإن ذلك يعود إلى مزاج شعري يزج باللغة في مواقع، تتطلب سعة بالمفردات ومعرفة عميقة في معانيها الخفية. في شعره لا تكف اللغة عن اللمعان بالرغم من أنها تمتحن قدرتها على التعبير عن موضوعات يومية، يمر بها الشاعر ويعيشها في حياة يبدو كما لو أنه يراقبها.
“الفكرة هي أنني لا أعرف هذا القط الذي يلحس الآن قدمي/ كأنها علبة سردين فارغة/ وبطريقة ما تصلني خيبة أمله/ لأن لسانه لا يؤدي المطلوب لدماغه/ أو لأن علبة السردين لا تؤدي المطلوب للسانه/ أو لأن معدته…/ لكن بالتأكيد ثمة سوء تفاهم كبير/ بين لسانه ودماغه وعلبة السردين وبيني/ لأنني أكاد لا أصدق خيبة أمله/ والأسوأ أنني، أخذا بجميع الاعتبارات/ أو بأقل الاعتبارات/ أكاد لا أصدق/ أن ما يجثم على قدمي/ مجرد قط/ يلحس في هذه الساعة/ علبة سردين متخيلة”.
يجمع أبوهواش في شعره بين ما هو ذهني مفكر فيه، وما هو واقعي يعاش باعتباره تجربة بصرية. وهو ما يضع المتخيل على المسافة التي تفصل بين الكلام والكتابة. في حالة من ذلك النوع يختبر الهذيان أسلحته وتتعرض الحواس إلى الخلخلة.
ولأن الشاعر مولع بالوصف فإن حكايته تحضر بروح الكلمات المتقاطعة التي تحتاج إلى مسايرة تنعم بالتأمل. فما تقرأه يمكن أن تراه. وما تسمعه يمكن أن تلمسه. وبالرغم من الذهنية العالية التي تستند إليها نصوص الشاعر غير أنها لا تخفي حسيته. فهو يرغب من خلال أشعاره في أن يشم ويتذوق ويلمس إضافة إلى قدرة نصوصه على ممارسة تمارين في البصر والسمع.
هذا شاعر يحلم بأن لا يترك حاسة من حواسه من غير أن يستعملها في القبض على الحالة الشعرية التي تحيط به وتخترقه كما لو أنه مجالها الحيوي.
مشاهد من عالم جديد
“في مكان ما، في صحراء ما، لا تصل الحافلة/ المنتصرون يعانون من نهاية الحكاية/ بينما يذهب المهزومون إلى حكاية أخرى/ يهزمون فيها منتصرين آخرين/ في مكان ما، في مقهى ما، تهطل الشمس قاسية عبر الواجهة/ ليس أمامنا سوى كوب الماء البارد/ وفكرة نرسمها دوائر على الطاولة/ الدوائر تستمر بعدنا/ في أصابع أخرى/ في مكان ما، في صحراء ما/ ‘ويلي’/ فوكنر يكف عن الكحول والإبر/ يحطم طائرته في السماء/ تاركا في عيون الرعاة والقديسين/ ضحكة أخيرة ساخرة”.
يصنع أبوهواش مشاهد مسرحية تبدو كما لو أنها مستلة من الكتب التي أعجب بها، غير أنها في الحقيقة ليست كذلك. فهي مشاهد يمتزج من خلالها الحياتي بالثقافي.
فليس المطلوب من الشاعر أن يتخلى عن ثقافته من أجل أن ينطلق لسانه عفويا. بالنسبة لهذا الشاعر ليست الحياة مسرحا للمشاعر الفالتة.
ذلك لأن نايات الرعاة في الحقول الخضراء لا تثيره بقدر ما يثيره مشهد المدينة الحديثة بخيلاء مبانيها وشوارعها وساحاتها وحدائقها.
يقف سامر أبوهواش في مقدمة جيل شعري طليعي غادر المعادلات الشعرية التي شكلت إطارا للحداثة الشعرية العربية.
لا أعتقد أن الشاعر يكترث كثيرا بالتوصيف النقدي الذي يمكن أن ينسبه إلى مرحلة ما بعد الحداثة وهو كذلك. غير أن ما هو مؤكد أن سامر أبوهواش بكل إنجازاته هو ظاهرة شعرية تشير إلى وقوع تحول كبير في الشعرية العربية.
