سافر وحيدا تمتلك ثقافة تعجز عن نقلها الكتب

القاهرة - يعد أدب الرحلات ممتعا ومشوقا، نظرا إلى ما يزخر به من مفاجآت ومغامرات، لا سيما إذا كان السرد فيه متقنا، علاوة على أنه يشكل بانوراما تغذّي العقل وتريح النفس، وتحلّق بالقارئ إلى فضاءات حالمة.
وفي كتابه “كعب داير.. في أوروبا”، الصادر عن دار صفصافة للطبع والنشر بالقاهرة، يعرض الباحث محمد بريشة، نماذج لأهم ما تشتهر به البلدان من معالم، وأهم ما تتميز به من عادات وثقافات. يقول المؤلف “على لساني 10 لغات أجيدها بطلاقة، وفي جوازات سفري أكثر من ألف ختم خروج ودخول وعشرات التأشيرات، تؤرخ زياراتي لأكثر من 90 بلدا حول العالم”.
ويضيف “ربما باستثناء الدبلوماسيين وبحارة السفن، لا أعرف أحدا زار هذا العدد من البلدان أو قضى سنوات عمره متنقلا بين المطارات ونقاط الحدود البرية والبحرية. فقد وجدت متعة حياتي أن أتنقل بين البلدان، كلما كان هذا الأمر متاحا. لا يهم أن أنتقل بالدرجة الأولى أو متطفلا عبر الأوتوستوب. لا يهم أن أبيت ليلتي في فندق خمس نجوم، أو في أوتوبيس ينقلني من مدينة إلى أخرى، فالمهم أن أنتقل من بلد إلى بلد”.
ويرى بريشة أن الأسفار علمته أن أشهى طعام هو ما يأكله البسطاء من أهل كل بلد، وأن أفضل طريقة للتعرف على أبناء الشعوب هي السير بينهم ولقاؤهم في شوارعهم ودكاكينهم ومصانعهم وحقولهم، وأن الثقافة المكتوبة على دروب البشر وبين ثنايا حكاياتهم، أكثر صدقا من عشرات الكتب والموسوعات.
ويؤكد أنه عندما حصل على الدكتوراه في “الجغرافيا السياسية” من أعرق جامعات كندا، شعر أن كل الجهد البحثي الذي دام لسنوات في رسالة الدكتوراه، يمكن تلخيصه في بضعة أسابيع يقضيها متنقلا بين “جغرافيا البشر”، بين ربوع المدن والحقول والغابات والصحاري والجزر والبحار.
ويوضح أنه لم يقصد أن يكون رحّالة، ولم يتخيل نفسه منذ عشرين عاما، عندما ركب الطائرة للمرة الأولى من القاهرة إلى إسبانيا، أنه سيقضي نصف عمره متنقلا من بلد إلى آخر. ويشير بريشة إلى أن طفولته تفتحت في إسكندرية الثمانينات من القرن الماضي وهي تودّع ذكريات الكوزموبوليتانية، حيث بقايا الجاليات الأجنبية تنقرض أو تكاد، لكنه وجدها في ألقاب بعض الأصدقاء، وفي أسماء الشوارع، وفي اللهجة المحكية “السكندرية” العامرة بألفاظ ومصطلحات عرف أصولها في ما بعد خارج الحدود، عندما أصبح يتقن معظم لغات أوروبا. ويضيف “في طفولتي، كانت دائرة الميناء الشرقي الواسعة تشكل حدود عالمي الصغير، فيدفعني الفضول إلى اختراقها. أرى الأمواج تصطدم بالشاطئ، فأتساءل دائما عن الشاطئ الآخر البعيد الذي بدأت عنده. ثم أسير بين شوارع المدينة فأجد تراثا معماريا يعبر كل الحدود ونقاط التفتيش حول العالم”. وبعد أن يستحضر لمحات مدهشة من عواصم أوروبا (روما، مدريد، باريس، لندن، أثينا) يرى المؤلف أنه رغم تعدد تجاربه في مدن أوروبا تبقى مدينته الإسكندرية حاضرة في كل مدينة يزورها حول العالم. ومن القواعد “الذهبية” التي تعلّمها بريشة خلال أسفاره كما يوردها في الكتاب يقول “سافر وحيدا، فأمتع السفريات على الإطلاق هي تلك التي لا يشارك في خطتها أحد”.
ويتابع في هذا السياق “من أهم وأخطر القرارات التي قد يتخذها أي مسافر، أن يرافقه أحد في السفر، وهو القرار الذي يجب أن يدرسه الرحالة بكل جدية وحذر، وهو المفتاح الأساسي لكل قصة فشل تُذكر في ثقافة السفر، فإن كان ولا بد من رفيق فلتكن على علم تام بغرضه وبرنامجه ومراده من مرافقتك، بل ويجب أن تناقش معه بالتفصيل قواعدك الخاصة التي يحب أن تتعرف عليها قبل أن تخطو أول خطوة في الرحلة المخطط لها، وكلما قل عدد الرفقاء زادت أسباب نجاح السفرة وتعددت المنافع المرجوة منها”. ويرى بريشة أن القراءة هي جوهر المتعة في كل ما يقوم به الرحالة من تجارب وخبرات، إذ “يستحيل أن تستمع بأي تجربة أو بأي سفرية دون أن تقرأ عن تفاصيلها مسبقا، حتى يتسنى لك فهم ما يدور حولك، فالقراءة هي الجوهرة التي ترصع عقد السفر وتحتل منه موقع الثقل، إنها المتعة الكاملة”.
وهو يدعو المسافر إلى أن يكون حذرا جدا، وأن يتجنب الوقوع في المتاعب، بل والابتعاد عن مواضع المتاعب برمتها. ويوضح أن المطارات هي من أكثر المناطق المتوترة والتي يضطر المسافر إلى أن يتعامل معها رغما عنه، فالمطارات هي بؤرة مناطق التوتر ومركز إثارة المتاعب، وتاريخها طويل كثقوب أمنية للحوادث الإرهابية المؤلمة.