"سارة".. فيلم يحلق من سوريا نحو العالم بجهود تطوعية

لا يتخلى الشباب السينمائيون في سوريا عن حلمهم في إنتاج سينما ترتقي إلى مستوى معارفهم وتوقعاتهم، وهم رغم افتقارهم إلى جهات حاضنة ماديا، إلا أنهم يسعون بجهود فردية وبالتطوع أحيانا لنقل أفكارهم من عالم التخطيط إلى حيّز التنفيذ فتغدو أحلامهم رسائل أكثر من كونها مجرد مشاريع سينمائية منقوشة على الورق أو محفورة في أذهان أصحابها.
دمشق - يقدم فيلم "سارة"، وهو فيلم روائي قصير، تجربة سينمائية شابة ومغامرة جمعت مجموعة من الشغوفين بفن السينما. ويقول علاء أبوفراج، وهو مصور ومخرج سينمائي شاب، يمتلك الكثير من الإصرار على العمل في فن السينما رغم المعوقات التي تعترض طريقه، ويحمل إرثا عائليا في فن التصوير الضوئي، حيث عمل عدد من أفراد عائلته عبر أكثر من جيل في هذه المهنة، يقول لـ"العرب" "منذ بدأت أولى مراحل الوعي النفسي وأنا أهتم بفن التصوير، في بيتنا كانت هنالك دائما آلات تصوير، ولدى أعمامي العديد من أستوديوهات التصوير في مدينة السويداء، وحالة التصوير حاضرة دائما في تفاصيل حياتي".
ودرس علاء الآثار والمتاحف بجامعة دمشق وعمل فترة في رحلات التنقيب التي كانت تنظم في سوريا، لكنه توقف عن هذا النشاط بسبب الحرب الطاحنة التي عرضت المناطق الأثرية تحديدا إلى الكثير من المخاطر.
ومتابعة لشغفه بالتصوير عمل مصورا صحافيا في العديد من المنابر الإعلامية ثم محررا صحفيا. وانتسب إلى دبلوم العلوم السينمائية وفنونها الذي تنظمه المؤسسة العامة للسينما، وتخرج فيه، ليقدم من خلاله فيلما روائيا قصيرا بعنوان "رائحة الوصايا" يتحدث فيه عن مذكرات جد، بالإضافة إلى أفلام وثائقية قصيرة مثل "لنا ذكريات" و"معمل التريكو".
خطوات أبوفراج الاحترافية الأولى كانت من خلال تجربة سينمائية متفردة في برنامج سينمائي للمخرج والممثل حازم زيدان عرضته قناة "لنا" السورية، حيث قدم فيلم “شغل بيت” الذي شارك مع العشرات من الأفلام الروائية القصيرة، وكان من ضمن خمسة عشر فيلما تتنافس على المرتبة النهائية، لتقرر لجنة التحكيم منحه الجائزة الأولى.
تجربة خاصة
في فيلم "سارة"، يمتد الزمن على مساحة سبع عشرة دقيقة فقط، يقدم فيه أبوفراج تجربته الأنضج سينمائيا، ففي الفيلم عوالم سينمائية تؤكد وجود رؤية مختلفة في التناول السينمائي الجاد. موضوع الفيلم اجتماعي آني، يخص فتاة تعيش وحيدة في دمشق، وتعمل في متجر كبير كعاملة صندوق. علاقتها بالعمل آلية، تقوم بعملها بإتقان ودون تفاعل مع محيطها الاجتماعي، رغم وجود عدد من المتطفلين الذين يتوددون لها.
تعاملت كاميرا المخرج لإيصال فكرة العزلة من خلال التركيز على تصوير يدي الشابة وهي تنجز العمل دون التركيز على تصوير ملامح وجهها وكيفية التعامل مع الزبائن. كما أوجد رموزا عديدة بيّن فيها موقعها في دمشق وهي محاطة بأبنية المدينة العالية في قلب السوق التجاري، لتبدو شخصا صغيرا شبه جامد لا يمتلك الكثير من القوة.
ويبني الفيلم ثيمته الأساسية على متابعة تفاصيل حياة هذه الفتاة خلال يوم كامل، فيرصدها خلال عملها وكيف تتعامل مع محيطها، مبيّنا الضغوط التي تتعرض لها. ويقدم "سارة" أسلوبا سرديا غير تقليدي، فالشابة التي تعيش في بيت شعبي تعاني من تطفل صاحبة البيت التي تلجأ إلى إيجاد المبررات المختلفة لكي تدخل البيت كل حين وتفقد أدق التفاصيل، حتى في اللوحات الجدارية التي تركتها معلّقة على حيطانه، لكن الشابة تتعود على أسلوب حياتها وتتعايش معه بصعوبة.
لا تبدو الفتاة وحيدة في البيت، فهنالك شاب يقيم معها، يبدو غريب الأطوار. فهو لا يغادر البيت، ويقوم بحركات تتشابه مع ما يفعله القط في حياته اليومية، فتارة يكون تحت السرير وتارة فوق السطح، وهو يحطم بتحركاته العبثية بعض حوائج البيت، يختفي في ثنايا البيت بين حين وآخر لتبحث عنه بنظراتها في كل الأماكن.
وعندما تدخل صاحبة البيت ذات مرة لكي تصلح عطلا فيه وتتفقده، تجده وتطلب من الشابة أن يغادر. هل يوجد ذلك الشاب في البيت حقيقة أم أنها تتوهم وجوده، وما هو إلا قط نشاهده في حضنها في نهاية الفيلم وترعاه في البيت لكي يؤنس وحدتها؟ لا يقدم الفيلم جوابا على هذا السؤال، ويترك الأمر ملتبسا تاركا مساحة خيال كبيرة لدى المتلقي ليجيب وفق تحليله للعمل. وهذا ما يخلق فيه شيئا من التوجس الفكري ومتعة الخيال معا.
رحلة تطوع
لا يملك السينمائيون الشبان الكثير من فرص الإنتاج في سوريا، فالمؤسسة العامة للسينما هي الجهة شبه الوحيدة التي تمكن هؤلاء من إنتاج أفلامهم، ولكن المشاريع المعروضة عليها تفوق قدرتها المالية فهي غير قادرة على تمويل عشرات الأفلام ومئات الأفكار، وهذا ما يحتم على هؤلاء البحث عن جهات إنتاجية خاصة أو القيام بتصوير تلك الأفلام بشكل تطوعي مع زملاء من الفنانين الشباب الذين يقبلون الاشتراك في إنتاج عمل سينمائي دون الحصول على أجر.
هذا ما حصل مع المخرج علاء أبوفراج، الذي أنجز فيلمه دون وجود شركة أو جهة إنتاجية مختصة، بل قام فريق العمل بتنفيذه تطوعا بعد إيمانه بالفكرة.
عن ذلك، يقول علاء لـ"العرب" "كنا مجموعة أصدقاء آمنا بفكرة الفيلم وأنه لا مفرّ من تنفيذها، وعندما لم نجد منتجا قمنا بتنفيذ الفيلم بشكل تطوعي، كانت البداية بتصويره في منزل بسيط، لكننا تقاطعنا مع من كان وجوده مطورا للعمل فنيا وإبداعيا".
ويتابع “بالطبع هذا حملني عبئا ماليا أكبر، لم أستطع تحمله شخصيا فساندني بعض الأصدقاء الذين يحبون فن السينما ويؤمنون بي كشخص يمكنه تقديم عمل جدي، تكاليف الإنتاج كانت منصبة على المصاريف المتعلقة بالمصروفات اليومية كالتنقل والطعام وخلافه، أما الأجور فإن كل الفريق لم يتقاض أي أجر، وكانت جهودهم كلها تطوعية، ويستحقون أن أشكرهم على تفانيهم في تقديم العمل بالصيغة التي خرج عليها".
وتجدر الإشارة إلى أن الفيلم من تأليف وإخراج علاء أبوفراج تمثيل سهير صالح وياسر البحر ورجاء قوطرش، مدير الإضاءة والتصوير يزن شربتجي، مدير الإنتاج مضر الطويل. مخرج فني حسين التكريتي ومونتاج كمال عرفات. تلوين أسامة عبود وموسيقى عمر حصني ومكساج حازم جبور.
شارك الفيلم في العديد من المهرجانات السينمائية في سوريا وخارجها، منها مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير الدورة الثامنة، وحصل فيها على جائزة هيباتيا الفضية بالإضافة إلى تنويه خاص من لجنة التحكيم للممثلة سهير صالح عن أدائها. كما شارك في مهرجان سينمانا الثالث للفيلم العربي في سلطنة عمان ومهرجان الظاهرة السينمائي في سلطنة عمان ومهرجان الدار البيضاء للفيلم العربي في المملكة المغربية وعرض ضمن فعاليات معرض أبوظبي الدولي للكتاب، وشارك في مهرجان "غولدن فستيفال" في البرازيل ومهرجان “سينما دل سيفالو" في إيطاليا.