سارة شمة فنانة سورية تطارد أشباح المحاربين بصرخة طفل

“ما من حرب هناك. الحرب كلها هناك”. ذلك ما يمكن أن يقوله المرء وهو ينظر إلى لوحاتها التي تخلو من مشاهد العنف غير أنها لا تخفي انفعالها العنيف.
لو لم تقع الحرب في بلادها لكانت سارة شمة فنانة أخرى.
قبل الحرب كانت ترسم بطريقة مختلفة. هذا مؤكد. لقد غيرت الحرب طريقتها في النظر إلى موضوعاتها، بل وإلى العالم من حولها. هذا صحيح. غير أن تقنياتها تطورت هي الأخرى بسبب شحنة الانفعال الإنساني الفائضة التي انطوى عليها الغضب. الحرب حدث موجع ولا يمكن أن يمر عابرا.
عنف الحرب والجمال
رسامة وجوه كانت. لا تزال كذلك. غير أن وعيها لوظيفتها رسامة قد تغير فصارت ترى الوجوه وترسمها بطريقة مختلفة. وجهها هو الآخر صار مختلفا فصارت تتعرف عليه كما لو أنها لم تعرفه من قبل. حلت الحفريات الخشنة محل اللمسات الأنيقة الناعمة وصار هناك ركام شيطاني أخذ الجمال إلى حفلة جنون ملونة.
صارت الرسامة السورية لا تكتفي بسطح واحد لتقول من خلاله إن العالم لا يزال جميلا بل لجأت إلى الحفر في ركام من السطوح لتبحث عن ذلك العالم الذي كانت تظنه باقيا إلى الأبد.
لم تعد مسألة التعبير عن موقفها الجمالي تعنيها في شيء. سبقها الفوتوغراف إلى حافات الجرح. لذلك صارت تستعير أقنعة لتخفي من خلالها إنسانيتها الجريحة. ولأنها لا تزال حتى اللحظة رسامة تشخيصية فإنها قررت أن تزود أبطالها بأقنعة تشبه وجوههم في لحظة ساكنة من الزمن لتبقي الجمال بعيدا عن الهلاك الذي صار يقترب. لقد فرت من الحرب لتحتفظ بشيء من القوة التي تؤهلها لقول الحقيقة. وهي حقيقة لا يعرفها المتحاربون.
لا تفكر شمة في الحرب حين ترسم بل في ضحايا تلك الحرب. لذلك جاء عنفها في الرسم محتجا، غاضبا ومسترسلا في ابتكار صور اختلافه عما هو سائد. وهو ما أعفى شمة من الدخول في متاهات السياسة.
عالم سارة شمة لا يمت إلى السياسة بصلة.
وهو العالم الذي حملته معها إلى منفاها بعد أن صار جزءا من مشروع الشتات السوري. بسببه صارت أقرب إلى معلميها فرانسيس بيكون ولوسيان فرويد اللذين كانا صديقين في لندن، المدينة التي تقيم فيها الآن.
عبر المرآة في الحديقة الشخصية
ولدت شمة في دمشق عام 1975. تخرجت من معهد أدهم إسماعيل للفنون التشكيلية عام 1995. أنهت دراسة الرسم في كلية الفنون الجميلة عام 1997 لتلتحق بالكادر التدريسي في المعهد المذكور لمدة ثلاث سنوات. بعدها أقامت أول معارضها الشخصية على قاعة المركز الثقافي الفرنسي بدمشق. أما آخر معارضها فقد أقامته في دبي عام 2017 وكان بعنوان “لندن”، المدينة التي احتضنتها بعد أن غادرت وطنها إلى لبنان عام 2012.
ما بين المعرضين أقامت الفنانة أكثر من عشرة معارض داخل وخارج سوريا. من بينها “حب” و”ولادة” و”طابور” و”شتات”. وكانت حريصة على أن تلتزم في كل معرض من معارضها بحدود الموضوع الذي تعالجه وكان مصدرا لإلهامها. وهي في كل الأحوال تستعرض وقائع شخصية. لم تكن موضوعية بالمعنى الذي يكون فيها الرسم تعليقا هامشيا على حالة خارجية أو وصفا لتلك الحالة. كانت كمَن يكتب يومياته القلقة عن طريق الرسم. كل معرض من معارضها هو حلقة من حلقات سلسلة سيرتها الشخصية.
ترسم لتقول إنها لا تزال حية. لذلك سيكون من اليسير التعرف عليها من خلال رسومها. ما تفكر فيه، ما تحلمه، ما يثيرها، ما يربكها، ما يؤلمها ويسعدها، وما يتحكم بمزاجها الذي لا تخفي توتره وتقلب حالاته. هذه رسامة مصائر، وإن كانت هي بطلة تلك التحولات التي يشترك الواقع في صناعتها بطريقة مريبة.
تخترق سارة شمة مرآتها الشخصية لتصل إلى الواقع.
ما تراه وما تفكر فيه هو الشيء نفسه حين يكون الواقع قد انقلب على نفسه ولم يعد قادرا على أن يصنع تحولاته اعتمادا على قوته الذاتية. الفنانة هنا تصنع واقعا بديلا، قادرا على التحرر من زمنه.
زمن الرسم بالنسبة لها هو زمن الحقيقة. وهو الزمن الذي تطل فيه من نافذتها على حديقتها الشخصية.
منذ بداياتها شكل ظهورها مؤشرا على ولادة جيل فني جديد بواقعية جديدة. واقعية لم يكن من سماتها الإفراط أو المبالغة غير أنها في الوقت نفسه لم تكن لتكترث لما يخالطها من أفكار سريالية طارئة، غير أنها في النتيجة كانت تسير في اتجاه تعبيرية صادمة، ساهمت الظروف الخارجية في تشكيل عناصرها ومفرداتها المتشظية.
لو قُدر لشمة أن تكتب لكانت كاتبة روايات شخصية. كل لوحة من لوحاتها هي في حقيقتها حكاية، غير أن متعة الرسم تغلب لذلك يتقدم الجمال على سواه، فينجز المشهد صدمته الجمالية لتتوارى الحكاية تحت السطح، على الأقل في لحظة المواجهة البصرية تلك.
لقد بدا واضحا أن تلك الفنانة تراهن على تمكنها من أدواتها لتتغلب على صعوبات التصوير أولا ومن ثم تبدأ في شق طريقها الشخصي في اتجاه مساحة تكون بعيدة عن تأثير الآخرين القريبين منها.
وكما أرى فإن ميل شمة إلى رسم الوجوه بأسلوب واقعي تعبيري كان له الفضل في قيام مسافة تفصل ما بينها وبين ما هو سائد من محاولات فنية في الحقبة التي ظهرت فيها.
وهو ما صنع من محاولتها حدثا مختلفا التفتت إليه فنانات من جيلها وصرن يفعلن الشيء نفسه. لذلك يمكن اعتبار فن سارة شمة ظاهرة تشير إلى التحول الذي شهده الفن التشكيلي السوري نهاية القرن العشرين.
ذاكرة نضرة وحاضر جريح
الغضب، الاحتجاج والاستفهام. ثلاثية الحوار الذي أقامته سارة شمة مع ذاتها بتأثير الحرب الأهلية التي تشهدها بلادها منذ عام 2011.
الصورة تشغل حيزا مهما في عالم الفنانة غير أنها صارت تتخفى وراء فكرتها بتأثير ما سببته تداعيات الحرب من انفعالات عبرت عنها الفنانة من خلال رسوم طفل، يكاد يكون القاسم المشترك بين عدد من اللوحات.
تعقد شمة مقارنة معقدة بين عالمين، أحدهما لا يمت بصلة إلى الآخر بالرغم من أنهما صارا يتقاسمان العيش في لحظة حياة واحدة، تبدو منفصلة عما يحيط بها.
تلك فكرتها عن عالم، صارت تمد يديها إليه بحذر خشية أن يتفتت أو يتشظى. ذلك هو عالمها الذي غادرته وصار من الصعب عليها استعادته إلا إذا قبلت بتمزقه الذي يظهره منفصلا عن كل ما يحيطه.
تعيش حاضرها لتتذكر وتتذكر ماضيها لتعيش. تلك معادلة تصنع من خلالها سارة شمة زمنها الخاص. الزمن الذي تتشكل فيه رسومها باعتبارها شهادة على وقائع روحية، يمكن للصور المزدوجة أن تكون ممرا إليها. هناك شيء من المباشرة، هو انعكاس لسلوك الإنسان في مواجهة الفجيعة. وهو ما يعلي من لغة الاعتراف التي تهز الروح بأسئلتها.
التغيرات التي طرأت على فن شمة لا تنحصر في الموضوعات، بل تشمل طريقة المعالجة وطبيعة التعامل مع المواد، الأمر الذي يكشف عن تأثير العنف على مزاج الفنانة التي صارت يدها تتحرك بطريقة ارتجالية، أكثر مما مضى.
تدافع سارة شمة في ما ترسمه عن الروح التي تواجه عنف الحاضر بقوة ذاكرتها.