سؤال الكتابة

يختلف المتخصصون في تعريف ماهية الكتابة، منهم من يعتبرها تقنية صالحة لتدوين المنطوق، كتلك التي عرفتها البشرية على مر العصور، كالهيروغليفية والمقطعية والأبجدية، وكلها تخضع لنوع من التصنيف، إذ تنتظم علاماتها في خانات، ثم تتشكل وفق كيانات تتعقد تدريجيا لتحديد نحوِ اللغة وصرفها، وفكرها وفلسفتها، ومعرفتها وثقافتها.
ومنهم من يعتبر الكتابة استراتيجية تعبير، تخلت عن دورها السابق كمجرد نشاط لخطاط أو نسّاخ يدوّن لغة منطوقة، وغدت مراسَ كاتبٍ أو صحافي أو فيلسوف ينتج خطابا مكتوبا، وينسج علاقة ما باللغة، تتسم بالتنوع، كالكتابة الملتزمة، والكتابة المقاتلة، والكتابة الكلاسيكية، والكتابة البيضاء، وكتابة التجميل والترويج؛ وهي كتابة خالية من العلامات ونظام الترقيم، لأنها تعكس استعمالا مخصوصا للغة، وللوظيفة الاجتماعية والأيديولوجية والسياسية التي تُخضعها الكتابة على اللغة، أو ترفض إخضاعها إيّاها. ذلك الاستعمال يحدد حقل الأدب والمناطق المتاخمة التي تتشبه به، كالصحافة والاتصال والتخييل التجاري والصناعي.
فهل الكتابة صورة للغة المنطوقة، أم هي مستقلة بذاتها؟
هذا السؤال اختلف حوله الفلاسفة والمربون وعلماء اللسانيات كما أسلفنا. فريق يؤمن بلغوية المكتوب، فيما الفريق الثاني يعتقد باستقلاليتها. الفريق الأول يعتقد أن الكتابة مرتبطة تمام الارتباط بقواعد اللغة، أما الفريق الثاني فيرى أنها رموز مرئية، شأن الترقيم الموسيقي والمعادلات الرياضية والعلامات، تشتغل وفق آليات مخصوصة.
في كتاب صدر عن الأكاديمية الملكية ببلجيكا، عنوانه “ما الكتابة” توقف جان ماري كلينكنبيرغ، الباحث المتخصص في اللسانيات، عند خصائص الكتابة دون أن يهمل صلتها الوثيقة باللغة، ليؤكد أن كل كتابة جديرة بهذا الاسم تملك معطيات قابلة للنطق شفاهيا، ولو حسب رموز مختلفة، سواء صوتية (مقطعية أو ألفبائية) أم تصويرية (كالأبجدية الصينيّة والهيروغليفية)، أم كلتيهما.
ولتحقيق ذلك، يعتمد المكتوب على أنماط مرئية (كالتنقيط، وتوزيع الفقرات، وتنويع حجم الخط، وترك مساحات بيضاء…) تختلف عن أنماط الشفوي. فالمكتوب يمكن أن يتوزع في فضاء الصفحة ويستمد منها آثارا متزامنة، كأن يقول “هذا عنوان” من خلال كتابة الحروف بالبنط العريض وسط الصفحة، و”هذا شبه عنوان” ببنط أقل حجما في سطر مستقل، و”هذا استشهاد” بوضع المقولة بين معقفين، و”هذه قائمة” بإدراج سلسلة متتابعة عموديا، مع ترقيمها أحيانا، و”هذا توقيع” بإفراد الكلمة أسفل نص، وهذا “رابط نص تشعبي” بوضع لون مغاير… وبذلك تبدي الكتابة استقلالها عن اللغة المنطوقة، لأنها فن الفضاء، كالهندسة والفن التشكيلي.
وبذلك أيضا، يقول الباحث، يمكن بعث نظرية جمالية عن الكتابات لا تهمل أيّا من وظائفها.