زَيْنَة أبي رَشَادْ لـ"العرب": طبيعة سلطنة عمان وهندستها ألهمتاني لرسم "النبي"

انعكست ذاكرة الحرب التي ولدت أثناءها المؤلفة ورسامة الكاريكاتير والقصص المصورة اللبنانية زَيْنَة أبي رَشَادْ على جل أعمالها، التي تبدو في خيالاتها قادمة من تلك الطفولة، مستفيدة من ذاكرتها الشخصية في تصوير أفكارها وحتى أفكار المبدعين الآخرين، ولو بوعي آخر مختلف عن الوقائع. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الفنانة التي تدخل بنا إلى أسرار ترجمتها لكتاب “النبي” لجبران خليل جبران” ولرؤاها حول الرسم والكتابة والتأليف والإبداع عموما.
وُلِدَتْ زَيْنَة أبي رَشَادْ في بيروت سنة 1981، وهي رسامة ومؤلفة كتب مصورة. لقي عملها “البيانو الشرقي”، الصادر عن منشورات كاسترمان سنة 2015، نجاحًا جماهيريا ونقديا. كما تحصلت على وسام فارس الفنون والآداب في عام 2016، ونشرت كذلك كتاب “طلب اللجوء” (مع ماتياس إينارد) في عام 2018، و”الكتاب الكبير للصغار” سنة 2020.
أصدرت نسخة مصورة من كتاب “النبي”، لجبران خليل جبران، عن ترجمة للفرنسي ديدييه سينيكال، صدر عن دار سيغيرس في أكتوبر 2023، وهو ما ننطلق من الحديث حوله مع أبي رَشَادْ في استجلاء لعوالمها.
نبي جبران
في رسمها لكتاب "النبي" أرادت الفنانة أن تخلق صمتا داخل النص وبنفس الطريقة أن ترسم دون “قول الكثير”
العرب: نود أن نبدأ مع كتاب “النبي”. أولاً، هذه الكلمة التي قالها السكرتير الدائم للأكاديمية الفرنسية أمين معلوف: “إن الخط الفريد لزينة أبي رشاد يوفر إطارا مثاليا لحكمة جبران الشعرية”. هل كانت هناك حاجة، إذا جاز التعبير، إلى ثالوث لبناني يرافق عملك على “النبي”؟
زَيْنَة أبي رَشَادْ: كنا بحاجة إلى جسر للعبور. عندما شرعت في العمل، كان يدور في ذهني المقدمة الجميلة جدا لأمين معلوف المصاحبة لطبعة كتاب الجيب. كانت هذه المقدمة من أول الطرق التي سلكتها نحو نص جبران. والثاني كان ذكرى طفولة ما تزال حية مرتبطة بالشعر العربي والثالث… كان المصطفى نفسه. إنها مقدمة النبي “وصول السفينة” التي تروي ضمنيا منفى جعل منه، بشكل نهائي، شخصا قريبا مني.
أمين معلوف تكرم بقراءة نسختي المرسومة من “النبي” قبل نشرها… وأهداني هذه الكلمات، مثل عابر. ويا له من عابر.
العرب: كيف بدأت عملك على كتاب “النبي” لجبران؟ كما أن هناك عدة ترجمات، أبرزها ترجمة للشاعر اللبناني الكبير صلاح ستيتية. لماذا اخترت ترجمة ديدييه سينيكال؟
زَيْنَة أبي رَشَادْ: في البداية، استمعتُ إلى النص. قضيت ساعات طويلة في قراءته بصوت عالٍ. ثم قمت بتقطيعه باستخدام بندول الإيقاع الداخلي كأداة رئيسية. كان على صداه أن يتردد في أذني، كنتُ أبحثُ عن إيقاع “أشعر به”، إيقاع يسمحُ للرسم أن يزدهر، أن يصبح مفردات، أن ينسج نفسه في النص ليرافقه في رقصة.
أردتُ أن أخلق صمتًا داخل النص، وبنفس الطريقة، أن أرسم دون “قول الكثير”، فالرسم يُظْهِرُ جيدا، ولكن ليس كل شيء، وذلك للسماح لخيال الجميع بالازدهار.
بدت لي ترجمة ديدييه سينيكال، البسيطة والدقيقة والخالية من الزخرفة، مثالية للترحيب بالرسم كصوت ثانٍ.
الكتابة والرسم
العرب: يوجد كذلك نصك الافتتاحي المؤثر، من خلال هذه الجملة “لقد التقيته أخيرًا بينما كنت أقرأ ‘النبي’ وفي يدي قلم رصاص وكراس رسم على ركبتي”، ثم “فكرتُ في أمي التي، جعلتني أحب الشعر عندما كنت طفلة، فلقد كانت تسمعني قصائد عظيمة كانت تُغَنى وتُعْزَفُ على الموسيقى. كانت بعيدة، كما لو كانت مكتوبة بلغة أجنبية، كشفت لي الكلمات التي تهتز بالنوتات والصوت، وأصبحت حميمة بشكل لا جدال فيه ونهائي”.
ما هي علاقتك بالأدب والشعر؟ كيف يتلقى الرسام الكلمات؟
زَيْنَة أبي رَشَادْ: الأدب والشعر جزء لا يتجزأ من حياتي، تماما مثل الرسم. إذ بدأتُ الرسم في بداية سنوات 2000، وقد كان ذلك لكتابة وقص حكايات. حتى اليوم، من النادر أن أرسم دون الحاجة إلى السرد. تتغذى مخيلتي من رقصة التنقل المتواصل ذهابًا وإيابًا بين الكلمة والصورة. عندما أرسم، أسمعُ الرسم. قرأتها مثل مقطوعة موسيقية، إنها إيقاع، وقص، وتكرار، وصمت… إنها قصيدة.
من النادر أن ترسم دون الحاجة إلى السرد إذ تتغذى مخيلتها من رقصة التنقل المتواصل ذهابًا وإيابًا بين الكلمة والصورة
العرب: إن عملك المشترك مع الحائز على جائزة غونكور لعام 2015، ماتياس إينارد، مهم جدا، مع قصة معقدة وغير نمطية في نفس الوقت. كيف تعاونت مع مؤلف كتاب “بوصلة”؟
زَيْنَة أبي رَشَادْ: لقد كانت مغامرة مثيرة. كان “طلب اللجوء” بمثابة محادثة طويلة استمرت لأكثر من عام بقليل. اقترح ماتياس النص (الكتاب مكون من حوارات فقط) وقمت بالرد عليه بالرسومات، حيث قمت بقص كل محادثة كتبها للتو ووضعها في سياقها (الشخصيات، والإعدادات، وما إلى ذلك).
هنا أيضًا، كان القطع خطوة حاسمة لإعطاء إيقاع لكل مشهد، ولكل لوحة، ولتقديم الصمت. ومن الناحية المنهجية، جَلَبَ الرد في الرسم عناصر جديدة إلى السرد وشارك بشكل وثيق في الكتابة.
أوقفوا الحرب
العرب: تعيشين في الخارج ويبدو أن عملك يندرج تحت رايتي السفر والحلم في الوقت نفسه. على ماذا تعملين في الوقت الراهن؟
زَيْنَة أبي رَشَادْ: عندما كنتُ طفلة، أردتُ أن أكون “رحالة” (“لكنها ليست مهنة”، كما كانوا يقولون لي). انتهى بي الأمر بالكتابة والرسم… وهي رحلات من نوع مختلف.
أعيشُ حاليا في سلطنة عمان التي ألهمتني طبيعتها وهندستها كثيراً لرسم “النبي”، وأعود تدريجياً إلى كتابة السيرة الذاتية. أينما كنتُ في العالم، فإن بيروت ليست أبدا بعيدة عن قلبي وأعتز بها مثل الكنز.
العرب: إذا كان عليك أن تبدئي من جديد، ما هي الاختيارات التي ستتخذينها؟ لو كان عليك أن تتجسدي من جديد في كلمة، في شجرة، في حيوان، أي منها ستكونين في كل مرة؟ وإذا كان عليك أن تختاري لونا، فماذا سيكون؟ أخيرا، إذا كان عليك اختيار عمل من أعمالك يترجمُ إلى لغات أخرى، العربية على سبيل المثال، أي عمل ستختارين ولماذا؟
زَيْنَة أبي رَشَادْ: لسنوات عديدة، كانت الأمنية الوحيدة التي كنتُ أتمناها عند إطفاء شموع كعكة عيد ميلادي هي “أوقفوا الحرب”. فالمرء لا يخرج سالما من الطفولة التي أمضاها في بيروت في الثمانينات من القرن الماضي، ولكن اليوم، إذا كان علي أن أبدأ من جديد، فلن أرغب في أن أولد في أي مكان آخر غير هذه العائلة الملونة التي تعيش على بعد 100 متر من الخط الأخضر.
عندما كانت زينا أبي رَشَادْ طفلة أرادتُ أن تكون "رحالة" وقد انتهى بها الأمر في عالم الكتابة والرسم
لكن لو كان عليّ أن أولد من جديد كشجرة، سأكون سعيدة جدا بأن أكون شجرة برتقال (لرائحة أزهارها)؛ وكحيوان، لم لا أكون طائر الحسون في البرية؛ بخصوص اللون … سيكون الأبيض والأسود! (لا تطلب مني الاختيار بين الإثنين، فأحدهما لا يُغْنِي عن الآخر!).
لقد تُرجمت أعمالي إلى عشرات اللغات ولكن ليس (بعد) إلى اللغة العربية.
أود أن تترجم “لعبة السنونو” إلى إحدى لغاتي الأصلية، لأنها تشكل عملاً على ذاكرة عصر بأسره (الحرب اللبنانية) لم يقع نقله من قبل أي كتاب مدرسي لبناني (يتوقف البرنامج قبل حرب لبنان سنة 1975).