زيف صمود الاقتصاد البريطاني
صدرت مؤشرات كثيرة تدحض المخاوف من التداعيات الخطيرة لانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، بعد أن أظهر القطاع الصناعي قوة استثنائية في أغسطس الماضي، إلى جانب تحسين سوق العمل.
لكن التأمل العميق لمشهد أكبر تحول في تاريخ بريطانيا منذ عقود، يؤكد أن البيانات لا تعبر عن حقيقة ما يمكن أن تواجهه بريطانيا، إذا حددت بالفعل مسارها وخيارات علاقاتها مع أوروبا في المستقبل.
ويستند ذلك إلى أن بريطانيا تواصل تجاهل نتائج الاستفتاء، ولم تصدر عنها سوى تصريحات متناقضة بشأن طريقة تنفيذ نتائج الاستفتاء الذي صدم توقعات جميع الأوساط المالية والاقتصادية.
الحقيقة الراسخة أن بريطانيا لم تفعل شيئا بشأن خطوات الانفصال حتى الآن، باستثناء البعض من تأكيد رئيسة الوزراء تريزا ماي، بين حين وآخر، على أن لندن لن تتراجع عن قرار مغادرة الاتحاد الأوروبي.
في المقابل يؤكد مسؤولون آخرون مثل وزير الخارجية بوريس جونسون، أن بريطانيا لن تدير ظهرها لأوروبا وستبقى “قوة أوروبية ملتزمة” وأن تصويت البريكست لن يعزل بريطانيا عن القارة، رغم أنه كان من صقور حملة الانفصال.
البيانات التي صدرت حتى الآن لا تعني شيئا، لأن لندن لم تتخذ أي إجراء يؤثر على سير النشاط الاقتصادي ولم تحدد خياراتها، وهي إذ تصر على الانفصال بعبارات رنانة بلا مضمون، تواصل الإصرار على الاحتفاظ بالمزايا التي تمنحها عضوية الاتحاد الأوروبي.
الحقيقة الراسخة هي أن أوروبا لن تسمح لبريطانيا بالاحتفاظ بمزايا الدخول إلى أسواقها وخاصة المالية، دون أن تدفع ثمن السماح بحرية تنقل العمال من الاتحاد الأوروبي، لأنها إذا سمحت بذلك فسوف تمنح بريطانيا هدايا مجانية.
تلك المعادلة مستحيلة بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، لأنها تعني ببساطة نهاية الاتحاد، وستدفع الكثير من دوله إلى المطالبة بالانفصال للحصول على تلك المزايا غير الواقعية.
لذلك فإن البيانات البريطانية القوية لا تعني شيئا، لأن الخطوات العملية للانفصال لا تزال مؤجلة، ولم يحدث شيء سوى أن الاقتصاد البريطاني استفاد من تراجع الإسترليني وخاصة القطاع الصناعي الذي أصبحت أسعار منتجاته مغرية وأكثر تنافسية في الأسواق الخارجية.
الثمن الباهظ للانفصال لا يزال مؤجلا، وحين تبدأ خطواته الملموسة ستقع الكارثة الكبرى، لأنها ستعني مثلا موت سوق لندن المالي، الأكبر في العالم دون منازع، والذي يساهم في معظم الناتج المحلي الإجمالي، إذا فقد حرية التعامل في داخل الاتحاد الأوروبي.
التداعيات الكارثية لا حصر لها، ومنها نهاية المملكة المتحدة بانفصال أسكتلندا الحتمي، وترجيح انفصال أيرلندا الشمالية، وصولا إلى موت جبل طارق، إذا انقطعت صلاته بأسبانيا.
الخيارات أمام لندن واضحة وصريحة، هي بين نارين، إما كارثة اقتصادية ونهاية بريطانيا بحدودها الحالية، وإما انفصالا شكليا لا يختلف عن العضوية الحالية الكاملة، لأنه يبقي حرية تنقل الأشخاص، التي كانت العامل الحاسم الذي صوت له مؤيدو الانفصال للتخلص من غزو عمال أوروبا الشرقية.
بل إن البعض لا يستبعد أن تتراجع بريطانيا وتبحث عن مخرج من الورطة، من خلال استفتاء ثان مبطن في شكل انتخابات عامة، يكون محورها الخيارات المرة المتاحة أمام بريطانيا بعد تحديد تفاصيل تلك الخيارات.
الحكومة البريطانية ستواصل دفن رأسها وتجاهل نتيجة الاستفتاء لفترة طويلة لأنها لا تجرؤ على قتل المركز المالي في لندن وتفتيت وحدة المملكة المتحدة، ويتحدث الكثيرون عن أنها لن تقرر شيئا حتى نهاية العام المقبل وربما حتى عام 2019.
ذلك الموقف مبرر لأنها لا تجرؤ على إلغاء نتائج الاستفتاء ولا تجرؤ على الانفصال، وسوف تترك الأمور معلقة حتى إشعار آخر لا يعلم أحد موعده.