زيارة البارزاني إلى بغداد مبادرة واعدة تستوجب التفاعل الإيجابي

زيارة الرئيس مسعود البارزاني إلى بغداد هي أكثر من هامة، بل ربما تكون خطوة مفصلية إذا تفاعلت مختلف الأطراف السياسية العراقية إيجابيا مع الرسالة التي كانت وراءها، وبنت عليها من أجل العمل المشترك لإنجاز مشروع عراقي وطني، يعترف بجميع الخصوصيات، ويضمن حقوق الجميع، على قاعدة الاشتراك في الحقوق والواجبات. وكل ذلك لن يتم بلوغه من دون إبعاد العراق عن دائرة الاستقطابات الإقليمية، ومعالجة ملفات الفساد، وتأمين الحد الأدنى، على الأقل، من مستلزمات العيش الكريم لسائر المواطنين العراقيين في جميع أنحاء العراق، لا سيما بعد ما كشفت احتجاجات أهالي البصرة عن واقع تلوث رهيب يعيشه سكان منطقة قابعة على بحر من النفط، وبجوار شط مائي كبير. منطقة كانت في وقت ما مهد الحضارات وبدأ منها التاريخ على حد تعبير عالم السومريات الأشهر صموئيل نوح كريمر.
وتكمن الأهمية الكبيرة لهذه الزيارة في كونها تجسيدا لرغبة حقيقية من جانب إقليم كردستان، ومن جانب الرئيس البارزاني، الزعيم الكردي الأبرز، تحديدا في الوصول إلى قواسم مشتركة، تطمئن الجميع، وتقطع الطريق أمام سعي هذه المجموعة أو تلك، بل هذا الفرد أو ذاك، للهيمنة والاستفراد وتهميش الآخرين والتحكّم بمقدرات البلاد ومصير العباد.
فهذه الزيارة تؤكد استمرارية نهج ثابت اعتمده الرئيس البارزاني على مدى مسيرته النضالية الشاقة المستمرة منذ أكثر من نصف قرن، كان خلالها مثال القائد العسكري الخبير في ميدان مقارعة الدكتاتورية والإرهاب؛ كما كان مثال القائد السياسي الحكيم المنفتح على مختلف الآراء، والباحث المستمر عن الحلول السياسية، لقناعته الراسخة بضرورة بذل كل الجهود السياسية مهما استغرقت من وقت وأخذت من طاقات، وذلك لتحاشي العمل العسكري الذي يظل الخيار الأخير الأصعب، والأكثر ضررا بالنسبة إلى الجميع.
المنطقة تمتلك إمكانيات هائلة لا يمكن استثمارها وتوظيفها لصالح أبنائها من دون توافق إقليمي إيجابي يضع حدا للنزاعات، ويفتح الطريق أمام نهضة صناعية وزراعية وعمرانية توفر فرص العمل
هناك محطات كثيرة تثبت بما لا يترك أي مجال للشك استعداد البارزاني ومعه الشعب الكردي من أجل بناء أفضل العلاقات مع سائر المكونات العراقية ضمن إطار عراق ديمقراطي، يضمن حقوق الجميع. ولكن المشكلة تتمثل دائما في نزوع القيادات التي توالت على دفة الحكم في بغداد نحو الاستئثار والاستقواء بالقوى الإقليمية من أجل فرض السيطرة على العراقيين، عربا وأكرادا وتركمانا وكلدانا وسريانا وآشوريين، بكل دياناتهم ومذاهبهم وطوائفهم.
وما يضفي أهمية استثنائية على الزيارة المعنية، وحرص البارزاني على اللقاء مع جميع الأطراف رغم الخلافات والمناكفات، هو أنها تأتي بعد مرحلة القطيعة التي أعقبت الهجوم على كركوك، والعقوبات التي فرضتها حكومة حيدر العبادي على إقليم كردستان في إطار ردود الأفعال التي كانت على عملية الاستفتاء، وهي العملية التي كانت بناء على قرار برلمان إقليم كردستان المنتخب.
ومن أجل سد الطرق أمام الأحابيل والمكائد التي لجأت إليها أطراف محلية وأخرى إقليمية، وحتى دولية في ذلك الحين، تحمّل البارزاني كامل المسؤولية، وأعلن استقالته من رئاسة الإقليم، ليقدم بذلك نموذجا غير مسبوق في منطقتنا من نماذج القيادات التاريخية التي تتخذ القرارات المصيرية الصعبة، وتكون على أتم الاستعداد لتحمل النتائج.
ورغم صدور تصريحات هنا وهناك، داخل العراق وخارجه، كان الجميع على دراية وقناعة تامتين بأن البارزاني يظل الركن الأساس في أي تفاهم ضروري مطلوب بين أربيل وبغداد.
وجاءت نتائج انتخابات البرلمان العراقي لتؤكد ذلك، فقد حصل الحزب الديمقراطي الكردستاني على ما يعادل كل ما حصلت عليه الأحزاب الكردية الأخرى في الإقليم مجتمعة من مقاعد في البرلمان العراقي. وتعززت تلك النتيجة في انتخابات برلمان إقليم كردستان، وكل ذلك أكد حقيقة معروفة من قبل، فحواها أن مركز ثقل القرار الكردي هو عند البارزاني وليس غيره.
الظروف الداخلية والإقليمية والدولية جميعها تساعد على توافق واقعي بين بغداد وأربيل، توافق من شأنه حل جملة المشكلات العالقة وفق الأطر الدستورية والقانونية، وعلى قاعدة مراعاة المصلحة الوطنية التي لا يجوز أن تكون مجرد شعار لتجاهل مصالح العراقيين، جماعات وأفرادا، في جميع المناطق العراقية من دون أي تمييز.
وما يُستشف من النفس الوطني الذي تؤكده الرئاسات العراقية الثلاث هو أن النية موجودة لدى مختلف الأطراف للنهوض بالعراق، وإبعاده عن دائرة الصراعات الإقليمية والدولية، وذلك لن يكون من دون تضافر جهود الجميع، مع تفهم كامل لطبيعة العلاقات المتشابكة مع الجوار الإقليمي، لا سيما مع كل من إيران وتركيا، ولكن تبقى العلاقات مع المحيط العربي هي الأهم.
وفي مقدور العراق أن يؤدي دورا جامعا توافقيا بين مختلف الأطراف على أساس مراعاة وقائع التاريخ والجغرافيا، والتداخل السكاني، والمصالح الاقتصادية المشتركة.
لقد أثبتت التجربة العراقية الطويلة منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003، أن فتح المجال أمام التغلغل الإيراني في مفاصل الدولة والمجتمع العراقيين، قد أدى إلى نتائج كارثية لم تكن في صالح العراقيين، ولن تكون على المدى الطويل لصالح الإيرانيين. فهكذا تدخل يؤدي إلى خلخلة في معادلات توازن المنطقة، وارتفاع وتيرة سباق التسلح، الأمر الذي سيترتب عليه المزيد من الاستنزاف، وعدم التركيز على التنمية التي تستوجب استغلال الموارد البشرية والطبيعية بصورة عقلانية رشيدة، وبما يضمن مستقبل الأجيال المقبلة، لتحقيق نهضة اقتصادية إقليمية، تضمن فرص التعليم والعمل للأجيال المقبلة.
الزيارة تؤكد استمرارية نهج ثابت اعتمده الرئيس البارزاني على مدى مسيرته النضالية الشاقة المستمرة منذ أكثر من نصف قرن، كان خلالها مثال القائد العسكري الخبير في ميدان مقارعة الدكتاتورية والإرهاب
فالمنطقة تمتلك إمكانيات هائلة لا يمكن استثمارها وتوظيفها لصالح أبنائها من دون توافق إقليمي إيجابي يضع حدا للنزاعات، ويفتح الطريق أمام نهضة صناعية وزراعية وعمرانية توفر فرص العمل، وترفع من مستوى المعيشة، وكل ذلك من شأنه تجفيف منابع الإرهاب، والحد من قوافل اللاجئين الباحثين عن مستقبل أفضل في بلاد الآخرين سواء في أوروبا أم غيرها من الدول.
ومن المفروض أن يطمئن أمر كهذا أصحاب الشأن، خاصة بعد تصاعد موجة الحركات الشعبوية الجديدة التي تشهدها العديد من الدول الأوروبية. وهناك مخاوف حقيقية من أن تستغل هذه الحركات الصعوبات الاقتصادية المحتملة التي يمكن أن تشهدها العديد من الدول المعنية في المستقبل القريب، لترفع من وتيرة شعاراتها اليمينية المتطرفة التي تهدد عملية الاستقرار على مستوى المجتمعات الوطنية وعلى مستوى القارة بأسرها، وهي العملية التي كانت الأساس للنهضة الأوروبية منذ أيام ما بعد الحرب العالمية الثانية.
المشروع الوطني العراقي، الذي لن يكون من دون استقلالية القرار العراقي لصالح جميع العراقيين، هو الأساس لاستقرار البلد ونهوضه، ومثل هذا الاستقرار هو المفتاح لإعادة التوازن إلى المعادلات المختلّة.
ومن هنا، نرى أهمية الاستفادة القصوى من المناخات الإيجابية التي وفّرتها زيارة الرئيس مسعود البارزاني إلى بغداد على الصعيد الوطني العراقي. أما أن تظل الشعارات العاطفية غير المقرونة بالأفعال وتبقى المجاملات الخاوية هي الطاغية، وينطلق كل طرف حرصا على مكتسباته الشخصية أو الفئوية على حساب المصلحة الوطنية، فهذا معناه المزيد من تبديد الإمكانيات والتيه في حسابات الآخرين.